جيلاني الهمامي
في حديثه الأول، كرئيس حكومة مساء يوم الأحد 18 أكتوبر، تطرّق هشام المشيشي إلى عدد من الملفات والقضايا الأكثر تداولا في حياة التونسيين هذه الأيام.
الأحاديث التلفزية على شاكلة حديث السيد المشيشي الليلة البارحة أصبحت من التقاليد السياسية والإعلامية في تونس منذ مدة. وهي في حدّ ذاتها عادة محمودة بما أنها تشكل فرصة يتوجه فيها رأس السلطة التنفيذية الأساسي، رئيس الحكومة، مباشرة إلى الشعب لإطلاعه على برامج الحكومة وتوجهاتها ونواياها ومواقفها من أهم الأحداث وما يجري على الساحة. وهو ما من شأنه أن يحدّ من أثر الإشاعة ويضفي على الإعلام وانتشار المعلومة والخبر شفافية ومصداقية.
كثيرا ما ينتظر المواطنون مثل هذا الحديث التلفزي للمسؤول الأول في الحكم لأنهم يتوقعون منه العثور على إجابات عن تساؤلاتهم التي تتحول في فترات الأزمات مثل الأزمة التي نتخبط فيها اليوم إلى حيرة.
الانطباع الذي حصل عندي أنّ السيد المشيشي لم يكن في حديثه البارحة منشغلا بحيرة التونسيين وتناول القضايا التي أثارها الصحفي (والذي بالمناسبة يستحق كثيرا من الشكر على جرأته وأسئلته المباشرة) بشكل بارد وجاف تطغى عليه الروح الإدارية الدواوينية الرتيبة. ويبدو أنّ السيد المشيشي من فرط حرصة على الظهور بمظهر رجل الدولة كما أوحى له بذلك ناصحوه في مجال “الكوم” سقط في الخلط بين المقتضيات الشكلية لخطاب رجل الدولة من جهة ومضامين الرسائل التي كان المتفرجون ينتظرونها.
لست أدري كم يتطلب الانتقال من مدير عام حتى لا أقول commis de l’Etat إلى رجل سياسي من وقت. ولكن الأكيد والواضح أنّ السيد المشيشي كان يعاني من صعوبات حقيقة في هذا الصدد بالذات.
بدا صريحا بل وجريئا عندما أقدم على كشف بعض الحقائق بخصوص التبرعات التي حصل عليها صندوق 1818 لمجابهة الكوفيد – 19 ومرض البيروقراطية العضال. ولكنه لم يقل غير نصف الحقيقة ذلك أنه لم يقل للشعب التونسي أنّ القروض التي حصلت عليها الحكومة السابقة بعنوان “قرض الكورونا” لم يصرف منها إلاّ جزء بسيط لفائدة الملف الصحي والحال أنّ البلاد تعيش على وقع أخطر أزمة صحية في تاريخها المعاصر. والسؤال المطروح أين صرفت تلك الاعتمادات المهمة؟؟؟
بدا السيد المشيشي جريئا حينما “بشّر” التونسيين بأنه لن يتوانى عن اتخاذ قرارات صارمة تصل إلى الغلق بالنسبة إلى المخابر التي لا تحترم تسعيرة التحاليل لمرض الكوفيد – 19، وكذا الأمر بالنسبة إلى الذين لم يجدوا مكانا في المستشفيات العمومية حيث يمكنهم التوجّه إلى القطاع الخاص وتعهّد بأن تتحمل الدولة نفقات علاجهم. ولكن هل سيقع فعلا تنفيذ هذا الوعد والتعهد؟؟
لا شيء يدفع على الاعتقاد في ذلك بالنظر إلى ما نلاحظه من غياب شبه تام لأبسط المستلزمات الطبية التي كان بمقدور الدولة توفيرها والحال أنها جمعت أرصدة مالية ضخمة في شكل هبات ومساعدات وتبرعات وقروض لتحسين الإمكانيات المادية للمستشفيات والمنظومة الصحية ككل ولا شيء من ذلك وقع فما بالك بالتكفل بمصاريف العلاج في المصحات الخاصة.
الأمر لا يعدو غير “حماسة” خطابية في أول حديث مباشر مع المواطنين في سهرة يوم أحد.
وبصرف النظر عن هذه الانطباعات العامة ماذا يمكن أن نستنتج من أول حديث لرئيس الحكومة في ظرف يتميز بأزمة حادة على جميع المستويات؟
أوّلا: غياب تام لبرنامج. لقد انجر السيد المشيشي وراء أسئلة الصحفي وكان عليه التنسيق مسبقا مع محاوره حتى يقدم للشعب التونسي وقد استوى في كرسي الحكومي ماذا ينوي القيام به لإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية الحادة. في هذا الباب اكتفى فقط بالتذكير بصعوبة الظرف الذي نعيشه والذي نحن مقدمون عليه. عجر في الميزانية بـ14% من الناتج الداخلي الإجمالي والحاجة إلى مديونية غير مسبوقة السنة القادمة تزيد عن 19 مليار دينار تونسي وانهيار وشيك للمؤسسات العمومية على رأسها الناقلة الوطنية “تونس الجوية” وما إلى ذلك من المعطيات التي باتت معلومة لدى الجميع تقريبا.
رئيس الحكومة لم يقدم ما من شأنه أن يشير مجرد الإشارة إلى أننا حيال فريق حاكم جديد له رِؤية وتصور للتعاطي مع هذه المعضلات التي نعرفها ونعيش تحت وقعها وضغوطها.
ما نستنتجه ثانيا من حديث رئيس الحكومة أنه من الناحية السياسية قد استقر بصورة واضحة ضمن ائتلاف سياسي جديد ترويكا النهضة-قلب تونس-ائتلاف الكرامة وأنّ هذا الائتلاف البرلماني بصدد التحول إلى ائتلاف لا فقط حاكم بل ائتلاف حكومي.
ثمة مؤشرات خفية في خطاب المشيشي على أنه أصبح في يد “حزامه السياسي” وأنه ماض في تدبير أمور البلاد والعباد ضمن مخطط هذا الحزام، إذ لم ينف تحوير الحكومة في المدة القادمة عملا بالاتفاقات السرية التي عقدها مع مَن صوتوا لحكومته واكتفى بالقول إنّ التحوير مرتبط بتقييم أداء الوزراء ويبقى بناء على ذلك واردا. أمّا المؤشر الثاني فهو ترحيبه بشكل غير مباشر بمشروع قانون تنقيح المرسوم 116 الذي تقدم به ائتلاف الكرامة أحد مكوني حزامه السياسي. لقد رحب بذلك عبر ترحيبه “بحرية الإعلام والصحافة” وما إلى ذلك من الكلام.
هذه المؤشرات تنضاف إليها مؤشرات أخرى لتؤيد التوجه الذي تحدثنا عنه ومنها تعيين يوم 7 أكتوبر الجاري المستشار الاقتصادي الجديد لرئيس الحكومة السيد عبد السلام العباسي الذي تولى حقيبة كاتب دولة للمالية في حكومة الجملي وهو حسب ما يتداول في الأوساط العليمة بارتباطاته، من أنصار حركة النهضة وقد أوصى به رفيق بوشلاكة. وبذلك يصبح لدى النهضة اليوم على الأقل عينان اثنتان في قصر الحكومة، الخريجي والعباسي.
حركة أخرى أقدم عليها المشيشي وهي سحب مشروع قانون أساسي يتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري وتنظيم هيئة الاتصال السمعي البصري وضبط اختصاصاته اليوم الاثنين 19 أكتوبر مع خمسة مشاريع قوانين أخرى (1) من دون موجب منطقي عدا أنه كما جاء في بيان نقابة الصحافيين “تعبيد الطريق أمام مشروع تنقيح المرسوم 116” الذي تقدمت به كتلة ائتلاف الكرامة والذي سيعرض على جناح السرعة على الجلسة العامة يوم الجمعة 20 أكتوبر.
إثر ذلك ينتظر أن ينطلق موسم الهدايا الكبرى وتوزيع مناصب الولاة والمعتمدين. فبحسب بعض التسريبات فإنّ عمل التشاور والضغط والابتزاز قد انطلق بعد إعداد لعملية تحوير واسعة للولاة ثم المعتمدين والمعتمدين الأول في كل الولايات تقريبا.
مؤشرات أخرى كثيرة ما تزال طيّ التكتم قد يقع الكشف عنها تباعا مع تقدم المفاهمات حول ترتيب شؤون الائتلاف البرلماني-الحكومي الجديد والذي يقع العمل حثيثا على تعزيزه باستجلاب البعض من الكتل المتاخمة للترويكا الجديدة (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة). وحسب بعض التسريبات فإنّ الصيد المستهدف قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في الشباك.
في خط مواز مع كل ذلك تتشكل خارطة الأشياء الأخرى ذات القول الفصل في رسم ملامح المستقبل خارج اهتمامات الترويكا والمشيشي وقيس سعيد. أول عناصر هذه الخارطة الحركة الاجتماعية التي لا يعلم أحد على وجه الدقة ما سيكون في أجندتها لشتاء قارس قد يكون لمشروع ميزانية عام جديد من سنوات الأزمة المستدامة تأثير يتجاوز كل التقديرات.
حينئذ كيف ستكون حسابات الربح والخسارة لدى الترويكا والمشيشي وقيس سعيد؟
سنعود في قراءة متصلة في الأيام القليلة القادمة.