عبد الرحمان ابن خلدون، هذا الواقف دائما بشرف في ساحتنا متوسطا شارعنا في قلب عاصمتنا، كتب تاريخنا ويتابع أيام حاضرنا.. يعرفنا حتى يكاد يسمينا. حين يضيق بنا الظرف نتحلق حوله ولا يهتز لصراخنا ولا يضجر من أناشيدنا ويتألم للفزع المنتشر أمامه وخلفه وعلى جانبيه.. يعرف الأحرار كما يعرف الطغاة ويدرك ما حل “بأساس العمران”. يشعر، وقد تصلب جلده، بألم الناس المتمكن من ضلوعهم ويحس بحرارة أنفاسهم ويشم روائحها رغم دخان الغازات التي تملأ المكان والزمان… لو تأملت في وجهه لرأيت عبوسه والبريق الساطع من عينيه وهو الذي يدرك وهج “الحرية”، العزيزة في قلوب طالبيها، كما تنطق بها حناجرهم وسواعدهم المرفوعة… لم تتغير حروفهم وكلماتهم وأغانيهم… تغيرت فقط أساليب ردهم وصدهم وقمعهم ووسائل البطش بهم.
هذ الوفي دائما لمكانه لا تحركه الرياح والأمطار والأعاصير.. وكلما غمّ خريفه جاءه الربيع مع عصافيره تجدد بناء عشها… أضحى، بحكم الإلف والعادة، ينتظر قدوم أصدقائه في المواعيد التي ينتظرها وما سبق أن خذلوه أو تركوه… يريد أن يطمئن لوجود الأحرار من حوله.. إنه كالطبيعة، يخشى الفراغ… لا يهتم كثيرا لعددهم وحجمهم وسنهم وجنسهم ولونهم لأنه عارف بطبيعة “الحرية” التي لا يحددها عدد أو حجم أو سن أو جنس أو لون .. . الأحرار هم الأحرار بلا زيادة أو نقصان. مواعيد الاطمئنان عزيزة عليه… يرف نبضه على وقعها رغم الصلب الذي يغطيه..
هذا التمثال القائم لا يتحرك.. شاهد نزيف الضحايا والموتى وهم يبتسمون وميز في الدخان أصدقاءه يتدافعون ويحمي بعضهم بعضا وهم إلى حلمهم يتسابقون… استنشق روائح دمهم وعرقهم وخزّنها في صدره لزمن القحط.. لا يغرنك يبسه فما ذلك إلا لحافه.. تلك عباءته التي تحتها تخفظون أشعاركم وأوراقكم وكؤوسكم وأحلامكم وأحزانكم وأفراحكم وأنغامكم التي عليها ترقصون… في دواخله تسكن العواطف والمشاعر والذكريات تتظلل بوردة زاهية ادخرها للعشاق والفجار وللكفار بالأغلال والقيود … حية أشياؤكم عنده، يقظة لا تنام ولا تموت ولا تتوب…. يُخجله مروركم الصامت وأنتم من زرع القمح الذي يقتات منه سكان الشوارع والقصور… هنا، في الجبة، خبأتم غضبكم وألمكم وأملكم وماءكم وخبزكم والغطاء الذي به تتدثرون.
رأى الطغاة أيضا وقد أضاعوا ملامحهم وخلفوها وراءهم.. رآى خوفهم ورعبهم وجبنهم وهم يتساقطون أو يفرون… رأى عتادهم يتقدمهم ويسبقهم وهم دوما متخلفون مرتبكون.. يبتسم حينا لكرّهم وفرّهم وهم يواجهون أصدقاءه الذين لا يملكون غير أصواتهم ولهيثهم وكلمة جاهزة للكمهم ووخزهم حين تلتقي العين بالعين أو حين يفرون ويرتدون.
يبتسم حين يرى أصدقاءه يتسللون إلى الشارع الممتد من الأنهج الجانبية يسترقون المنافذ الضيقة من وراء الحراس اامدججين والمتربصين… يسعد لتدفقهم ويزهو لنجاحاتهم الصغيرة أو الكبيرة.. يبتسم حين ترتج الأرض من تحته وتتآكل الصخور ويخاف عليهم من خوفهم وهم عصافير يواجهون أعتى الصقور.
تراه حزينا حين يسألك عن بعض الوجوه وعن أسماء غابت عن الحضور…. يتسارع لهيثه ويضغط على جفنتيه ليمنع دمعة حارة عن النزول… يرفع رأسه إلى السماء ويمد ذراعه حتى يبدد السحاب والغيوم ويترك منفذا لأشعة الشمس ونور القمر والنجوم… يناجيهم في خلوتهم ويسامرهم في الليل ويروي لهم القصص والأساطير وأحاديث الأولين عن البطولات والملاحم كلما قرعت الطبول… يعاهدك على حفظهم وتأمينهم من مكر الماكرين وحيل السفهاء والغاصبين.
يحييكم ابن خلدون من الشارع الطويل ويقول لكم: “إنكم هنا في صدري خالدون وإذا ضاقت بكم الدنيا، حولي، دوما، تلتقون وتجتمعون وتتآلفون. أما الطغاة، فهم لا محالة ساقطون آفلون حتى لو اعتقدوا أننا، بكلّ عتادهم هذا، هنا محاصرون…إنهم، عن حقيقة التاريخ، غافلون وعن فنه ذاهلون “.
عادل الحداد