عادل الحداد
ما علمت أبدا أن اليسار في تونس خطط لاغتيال الأمنيين وذبحهم أو الاعتداء عليهم وعلى مقراتهم.. كانت خصومة اليسار مع الأمنيين “ميدانية” تفرضها ظروف المظاهرات عندما تعمد قوات الأمن إلى التصدي لها وقمعها فتدور أحداث الكر والفر وينتهي “العنف” بانتهاء المناسبة… أو خصومة “أخلاقية – حقوقية- قانونية” تتعلق بما عاشه اليساريون من ويلات التعذيب في الدهاليز والمعتقلات والسجون. ولم يسبق لنظام بورقيبة أو بن علي، على ما أذكر، أن حاكم اليساريين بتهمة تكوين جهاز سري مسلح ومدرب من أجل تفجير مقرات أمنية او بهدف قتل الأمنيين… كما أن استعمال مياه الحارقة في وجوه الأمنيين او غيرهم لم يكن من عادات اليساريين وعرفهم. لم يكوّن اليسار في تونس، منذ 56, جماعات قتالية أو جناحا عسكريا سريا خاصا بالاعتداء والقتل والتفجير.
وحين كان الأمن يداهم منازل اليساريين كان يعثر عندهم على كتب ومجلات ومقالات ومناشير وأشرطة غنائية فيحجزها حجة لمحاكمتهم ولم يحصل أن عثر في بيوتهم على سكاكين أو سيوف أو خناجر أو قنابل يدوية أو مواد حارقة أو اسلحة نارية خفيفة أو ثقيلة ولم يجرأ حتى على دسها في بيوتهم أو سياراتهم.. لم يُعرف على اليساريين أنهم دربوا رفاقهم على صناعة المتفجرات وتركيب المواد الكيميائية وهندسة خطط الهجوم على الأمنيين وحافلاتهم وسياراتهم ومقراتهم وثكناتهم… كان اليسار التونسي يسارا فكريا معارضا تكوّنه مجموعات مثقفة تؤمن بالحجة ومناقشة المقاربات وبناء الرؤى.. وأدبياته التي يتبادلونها كانت سياسية فكرية خالصة.. لم يعمل اليسار بأساليب العصابات ولم يكن يتلقى تمويلات مالية من الخارج حتى عرف بفقره المدقع فقر الفئات التي يدافع عنها… وهذا حاله إلى اليوم.. حتى في الحملات الانتخابية نجد شباب هذه الأحزاب يتطوع ويعول على نفسه بتقاسم أعباء القهوة والشاي والماء واللمجة البسيطة.
كانت محاكماتهم محاكمات رأي لأنهم ناضلوا من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ولم يسكنوا، من أجل ذلك، الصحاري والجبال، بل عرفوا بنواديهم الفكرية: نوادي الفكر، نوادي السينما، نوادي المسرح وغيرها وبجمعيات ورابطات ومنظمات وطنية. عولوا على “الوعي النير” وعملوا على نشره. لذلك يُتهم اليسار التونسي، من طرف فصائل أخرى من اليسار العالمي، بأنه يسار إصلاحي. وأتذكر جيدا الخلاف الذي شق اليساريين في تونس، وكنت من بين المشاركين في النقاشات، حول تقييم العملية العسكرية المعروفة “بعملية قفصة” التي كانت عملية مسلحة عنيفة ولم يكن اليسار طرفا فيها.
لم يكن اليسار، وهو المؤمن بالثورة الجماهرية، من أنصار الانقلابات العسكرية ولذلك لم نعرف أنه نظم لاختراق المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية ولم نشهد محاكمات لعسكريين او امنيين بتهمة انتمائهم إلى اليسار الماركسي أو لفصيل من فصائله… كان صراعهم مع “النظام” ولم ينشغلوا بالترتيب لتخريب مؤسساته لأنها مؤسسات الدولة تعمل وفق سياسات عامة كان اليساريون يعترضون عليها. لذلك لعب اليسار التونسي دورا رائدا في الثقافة والفنون والعلوم وأغلب جيل المثقفين اليوم يجد جذوره في اليسار رغم تنكر البعض له. لذلك وسع بنضاله مساحة التحرر وعمل على فرض استقلالية المنظمات الوطنية واحترام حقوق الانسان بما فيها حقوق خصومه وأعدائه.
إن النقمة التي عبر عنها بعض رموز النقابات الأمنية هذه الأيام ضد اليسار لا يمكن أن تُفهم في سياق صراع الأمنيين واليساريين التاريخي. فاليساريون، الملحدون الشيوعيون وجماعة الصفر فاصل كما جاء في خطاباتهم، لم يسبق أن وصفوا الأمنيين بالطاغوت كما لم يسبق أن ذبحوهم أو طعنوهم بالسكاكين او فجروهم بالقنابل أو رموهم بالماء الحارق أو هددوهم بالاعتداء على عائلاتهم وزوجاتهم وأبنائهم. لم يكن اليساريون إرهابيين… واليساريون ، الذين حملوا السلاح فعلا، حملوه في فلسطين او لبنان اوسوريا حين شاركوا في المقاومة تحت راية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو مع فصائل فلسطينية يسارية تقدمية أخرى وحين عادوا إلى تونس لم يكوّنوا جماعات عسكرية ولم يحاولوا ذلك بل انخرطوا في النضال المدني السلمي وعاشوا تونسيين بين التونسيين.
إن هجوم بعض رموز القيادات الأمنية على اليسار هجوم لا يبرره التاريخ بل يفهم في سياق انحيازهم المفضوح لجهة سياسية تميز في التونسيين بين الكفار والمؤمنين وهذا انحياز لا يرتضيه اليساريون لأنهم مع “المواطنة” ومع “أمن جمهوري” محايد يحمي الدولة ومؤسساتها عبر حماية مواطنينها وحقوقهم. ما يرفضه اليسار هو أن يكون للمؤسسة الأمنية والعسكرية هوية سياسية وولاء آخر غير الولاء لتونس هذا الوطن العزيز علينا والذي يستعد كل امني وكل عسكري وكل مدني وطني للتضحية بدمه وحياته في سبيله. لذلك كانت حرقة اليساريين كبيرة حين جرت عمليات اغتيال الأمنيين والعسكرين ونزلوا إلى الشوارع للتنديد بالإرهاب الذي طالهم وطالبوا بعقد مؤتمر وطني لمناهضة الإرهاب وما علمنا يوما بإيقاف يساري واحد احتفل باغتيال أمني أو عسكري..
الهوية السياسية للمحتفلين بالاعتداء على الأمنيين والعسكريين معروفة وليس منهم “الملحدين والشيوعيين واليساريين الفاشلين وجماعة صفر فاصل”.. إن هذا الهيجان المفرط مريب ويثير تساؤلات عديدة حول الجهة التي لها “مصلحة” في تحويل المؤسسة الأمنية إلى مؤسسة عقائدية وتدفعها إلى المجاهرة العمومية بالعداء لفريق من تونسيين لم يعرف عنهم أن سبق وخانوا وطنهم أو باعوا أو قتلوا واغتالوا. إن هذا الذي حدث مريب وخطير يورط الأمنيين ولا يدافع عنهم وينصبهم حكاما على ضمائر التونسيين ومعتقداتهم وأفكارهم بما يتعارض تعارضا صريحا مع الدستور ومع القوانين الضابطة لواجباتهم وحقوقهم.
من المستفيد من تأجيج هذا التحامل العلني على اليساريين في هذا الظرف والتحريض عليهم بهذا الشكل؟ هل الغرض من ذلك الدفع باتجاه معاملة أمنية “خاصة” مع اليساريين؟ هل للأمنيين مصلحة حقيقية في أن يتحول جزء منهم إلى “ميليشيات” سياسية وهل في ذلك خير للوطن الذي يضمنا ويضمهم جميعنا؟ إنها فتنة جديدة أخرى متربصة ببلادنا تستهدف وحدته بتمزيقه إلى ملل ونحل. في عائلات اليساريين امنيون كما في عائلات الأمنيين يساريون، يأكلون معا ويشربون من نفس الحنفية وبنامون في غرف متجاورة ويتصاهرون ويتقاسمون حبهم لوطنهم في أحلامهم وافراحهم واحزانهم.
سيبقى شعار اليساريين هو نفسه الشعار تعلموه من رفيق دربهم الشهيد شكرى بلعيد، الشعار الذي يحث على النضال المدني الاجتماعي الجماهيري الديمقراطي السلمي. الشعار الذي اختزل مسيرة اليسار كلها في تونس. وبفضل هذا النضال أصبح ممكنا للأمني، بعد نظام بورقيبة ونظام بن علي، أن يقف في الساحات العامة ويخطب ويرفع الشعارات ويكوّن النقابات ويدافع عن مصالح منظوريه الاجتماعية. وبفضله أيضا يناضل أمنيون وطنيون شرفاء من أجل “أمن جمهوري” ذي عقيدة وطنية مؤمن بضرورة ترفعه على الحسابات السياسية الضيقة، يعرف واجبه ويتفانى في القيام به في حدود ما يضبطه القانون وبالحقوق التي تلائم تضحياته وتتوافق مع مخاطر قيامه بواجبه.
أما السياسة فلها أهلها كما للأمن أهله ومن مصلحة الجميع ان يكون أمننا “أمنا جمهوريا” يليق بالوطن الذي ننشده.
Photo : © Hedi Ayari