علي البعزاوي
لا حديث هذه الأيام إلاّ عن الأزمة العميقة والشاملة التي تضرب البلاد والتي يلخّصها المتابعون للشأن العام في جملة معبرة: “الحكم في وادي والشعب والمجتمع في وادٍ آخر”، في إشارة إلى الصراعات الدامية بين مكونات الحكم والتي أخذت في الأسابيع الأخيرة طابعا عنيفا ولا أخلاقيا من جهة، وإلى تردي الوضع الاقتصادي والمالي وانعكاساته المدمّرة على الوضع الاجتماعي بالارتفاع غير المسبوق لمعدلات البطالة والفقر والتهميش وما خلّفته من أزمات أخلاقية ونفسية من جهة أخرى.
تونس تتجه نحو الإفلاس أو هي في حالة إفلاس غير معلن نتيجة الخيارات الرأسمالية التابعة التي تصرّ منظومة الحكم على إنتهاجها وأطراف الحكم تتصارع حول الهيمنة على المؤسسات ومحاولة الانفراد بالسلطة وكسب الأنصار والداعمين في الداخل والخارج. والتونسيات والتونسيون يسابقون الزمن ويتدبرون أمرهم بشتى الوسائل لإعالة أنفسهم وأسرهم متحدّين وطأة شهر رمضان ومخاطر الوباء. هذا هو ملخص الوضع في البلاد الذي يعيش على وقع مفارقة عجيبة.
الأزمة في عيون الطبقات والفئات
الأزمة من وجهة نظر أطراف الحكم على اختلاف مواقعهم واقع موروث وقضاء وقدر زادها الوباء عمقا واستفحالا. بل الوباء هو في نظرهم السبب الرئيسي لهذه الأزمة. لذا لم يبحثوا عن معالجتها معالجة جدية بل خيّروا المضيْ في صراعاتهم من أجل كسر عظام بعضهم البعض شعارهم البقاء للأصلح. والحلول الممكنة من وجهة نظرهم يتمّ البحث عنها في إطار انحيازهم الطبقي لصالح حفنة من السماسرة المحلّيّين وكبرى المؤسسات والشركات والدول الاستعمارية.
امّا الطبقات والفئات المتوسطة المتضررة من الأزمة وتعبيراتها السياسية والمدنية وغيرها فتنتظر حلولا من داخل المنظومة تتمثل في عودة الوئام والتوافق بين أطراف الصراع، واستقرار الوضع الشرط الضروري في نظرها والمدخل للتعافي من الأزمة. وجزء منها يعوّل على أحد أطراف الحكم لاتخاذ مبادرات وحلول كفيلة بالخروج من الأزمة على حساب الطرف الآخر الأكثر خطرا.
أمّا الأجراء وعموم الكادحين في المدينة والريف فقد فقدوا في أغلبهم الثقة في منظومة الحكم وفي إمكانية التوصل إلى حلول من داخلها أو بالاعتماد على أحد أطرافها. وهم أميل إلى الاحتجاج والنضال من أجل فرض مطالبهم المباشرة وتحسين أوضاعهم. ويعوّل جزء منهم على تغييرات جذرية تعيد الأمور إلى نصابها وتفتح الطريق أمام تحقيق أهداف الثورة وتجاوز الرجعية بمختلف تلويناتها سواء كانت في الحكم أو خارجه.
آخر الطب الكيّ
يستعدّ وفد حكومي برئاسة المشيشي للذهاب إلى واشنطن وعقد مباحثات مع خبراء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي من أجل اتفاق مالي جديد يتمّ بموجبه إسناد قرض لفائدة الدولة التونسية مقابل خارطة طريق وبرنامج ملزم للحكومة (قرض مشروط) التي شرعت منذ مدة في تهيئة المناخ الملائم من خلال جلسات حوار مع منظمة الأعراف والاتحاد العام التونسي للشغل الذي يبدو منشغلا أكثر بمؤتمره الاستثنائي غير الانتخابي ومهيّأ لمزيد التنازلات بعد رفض الرئيس للحوار لتمرير حزمة الإملاءات القديمة الجديدة والتي تتمثل في رفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية بلا استثناء(أي تحرير الأسعار) والضغط على كتلة الأجور أي التخفيض في المرتبات وسد الباب أمام الانتدابات في القطاعين العام والوظيفة العمومية والضغط على الخدمات الأساسية العمومية من صحة وثقافة وتعليم وبيئة وفتح الباب على مصراعيه أمام القطاع الخاص ليملأ الفراغ، وتهيئة مناخ الأعمال بدعم المستثمرين المحليين والأجانب عبر الامتيازات ومرونة التشغيل أي تسهيل إمكانية الاستغناء عن اليد العاملة بلا شروط كلما رأى أصحاب المؤسسات ذلك ضروريا. مع تشديد وتائر العمل لتحقيق الربح الأقصى مقابل أجور بؤس إلى جانب إصلاح المؤسسات التي لن يقبل صندوق النقد الدولي بأقل من التفويت فيها لصالح الخواص.
الحكومة ومن ورائها الحزام السياسي الداعم لها تعوّل على “نجاح” هذه الزيارة والظفر بتمويلات جديدة مهما كانت باهظة التكلفة لانها الخيار الوحيد الذي يحفظ مصالح الكمبرادور ويضمن خلاص الدّين الخارجي أصلا. وهي مستعدة لقمع كل الاحتجاجات ضد سياسات التفقير والتهميش والتجويع التي شرعت فيها منذ اندلاع شرارتها الأولى بمناسبة ذكرى الثورة.
وقد خلقت وسائل إعلام المنظومة وخبراؤها المطبّلون مناخا يوحي بأنّ النجاح او الفشل يختزل في ثنائية حصول اتفاق مع المؤسسات المالية العالمية من عدمه دون التعريج على مخاطر هذا الاتفاق وتداعياته على سيادتنا الوطنية وعلى الاقتصاد المحلي وعلى حق الشغل والعيش الكريم للتونسيين.
القوى الثّوريّة امام رهان صعب
الظروف الموضوعية ستكون بلا شك مواتية لقوى الثورة والطبقات والفئات التي لها مصلحة في التغيير الجذري والتي تشكل منطقيا الأغلبية في المجتمع رغم أنّ العديد منها تغلب عليه الانتظارية والتردد ولم ينخرط بعد في الاحتجاج الذي دشنته الفئات الشبابية وانتهى بجملة من الإيقافات والمحاكمات. الرهان موكول لهذا المعسكر دون سواه لإنقاذ البلاد من ازمتها.
لكن المسالة ليست آلية وتتطلب قدرا هائلا من الجاهزية التنظيمية والعملية لهذه القوى إلى جانب قدرتها على التوحد رغم الخلافات السياسية التي تشقها خاصة في مستوى التعاطي مع الأزمة، ولفّ أغلب هذه الطبقات والفئات حول برنامج بديل للتغيير الجذري تكون مقتنعة به ومتبنية له وتنخرط عن وعي في فرضه من خلال أعمال نضالية مفتوحة في الشارع وفي مؤسسات العمل المختلفة.
ولتحقيق هذه الأهداف يُطرح على القوى الثورية والتقدمية توضيح برنامجها على نطاق واسع وتنظيم الندوات المفتوحة والاجتماعات العامة لأجل ذلك مع ضرورة الاستفادة من هذه الحوارات من زاوية إثراء البرنامج وتطويره ليكون عاكسا لإرادة الأغلبية الواسعة وعنصر وحدة لا تفرقة.
كما يطرح عليها (القوى الثورية والتقدمية) تبنّي مطالب هذه الفئات والطبقات بما في ذلك الجزئية منها مع العمل على ربطها بالأهداف العامة في مسار تراكمي يقود إلى إرساء البديل الوطني الديمقراطي الشعبي الذي ينهي حكم السماسرة وهيمنتهم الاقتصادية بمصادرة أملاكهم غير المشروعة ووضعها على ذمة الدولة ويحرر قوى الإنتاج من التبعية المدمرة ويبني اقتصادا جديدا موجها لخدمة الحاجيات الأساسية للشعب من خلال فلاحة عصرية وصناعة وطنية وخدمات أساسية راقية من صحة وتعليم وثقافة وخدمات بيئية.
المرحلة مرحلة فرز ووعي طبقيّين من أجل استقطاب حقيقي بين قوى التغيير الوطني الديمقراطي الشعبي على اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية من جهة والقوى الرجعية بمختلف تلويناتها مهما احتدت صراعاتها وخلافاتها ومهما كان موقعها سواء كانت داخل الحكم أم خارجه من جهة أخرى,لأنها في الجوهر موحدة ضد شعبها ومصممة على المضيّ في نهجها اللاشعبي واللاوطني وتواطئها مع قوى النهب والاستغلال الداخلي ومشغّليها من القوى الاستعمارية.