تعيش صفاقس على وقع أزمة بيئية وصحية مفتعلة منذ ما يقارب الشهرين ..أطنان من الفضلات المنزلية والصناعية والطبية الخطرة، دخان حرق القمامة والروائح والغازات السامة صارت سمة هذه المدينة المنكوبة .
أزمة خلقها وأبدها الائتلاف الطبقي الحاكم مرة حين تغلف بالدين وأخرى حين تزين بالانقلابات والشعبوية في محاولة منه لمزيد التنكيل بأبناء هذا الشعب.
ولعل اللافت في أزمة صفاقس أنها تأبى أن تكون مجرد أزمة بيئية عابرة قد تجد لها بدل الحل آلاف الحلول بل كونها أزمة سياسية بامتياز ..أزمة حكم وبلغة أكثر صرامة ووضوح “من يحكم من؟” وبيد من يتمركز الحكم ؟
وبالفعل فما تشهده شوارع المدينة المنكوبة من مشاهد شبيهة بزمن الأوبئة في القرون الوسطى من جهة وما عرفته جهة عقارب من تطورات خطيرة ومن انتهاج لسياسة قمعية تنكيلية بأبناء الجهة أودت بحياة شاب لحد اللحظة يؤكد أن جوهر الحكم هو ذاته رغم التغيير الشكلي الذي طرأ عليه ورغم الدعاية والتحشيد لفائدته ورغم نتيجة الصراع التي حسمت الأمر لفائدة شق من شقوقه.. جوهر معادي للغالبية الساحقة من أبناء هذا الشعب لا يرجى منه أن يحس بمأساة المدينة المنكوبة وأبنائها ولا ينتظر منه غير مزيد من الاعتداء على حق الناس في الحياة بل إن الوقاحة بلغت معه درجة أن صار يمن علينا بهذا الحق إذ يعتبره امتيازا ونافلة ..
وما الحلول التي يجدها سوى مزيدا من تأبيد الأزمة أو نقلها من مكان لآخر وكأن البلاد بها مواطنون درجة أولى وآخرون ثانية وثالثة.. وكأن الحق في الحياة قابل للقسمة والتفاوض والتشكيل وإعادة التركيب حسب الأهواء والمصالح.
إن الحق في الحياة لا يقبل التجزئة مطلقا فمن حق أهالي صفاقس العيش أما أن يقع مساومتهم إما الموت بالقمامة والسموم في كل ربوع المدينة أو الموت تحت الرصاص والرش وقنابل الغاز الخانقة والحلول الأمنية وتحت الأحذية الصلبة لبوليس السلطة فهذا جريمة أخرى من جرائم السلسلة الغذائية التي يديرها رأس المال وخدمه .
ولئن كان الغنوشي قد ابتدع نظريته المتمثلة في ” التدافع الاجتماعي” فإن سلطة الانقلاب المتمثلة في قيس سعيد ومن معه أبدعت في تنفيذها فهاهو التدافع المناطقي والأهلي ينجز على أرض الواقع ويتقدم أشواطا ..
هنا في صفاقس إما الموت بالجملة وإما الموت بالتفصيل في مشهد تقول لنا فيه الشعبوية المنقلبة “القمامة أمامكم والبوليس ورائكم”
فمحاولة ردم منطقة عقارب مرة أخرى بالنفايات والسموم باستخدام القمع والرصاص والقتل العمد في مواجهة أهالي عزل عانوا من ويلات التلوث لسنوات ليس إلا تكملة من طرف سلطة الانقلاب لمشروع بدأته النهضة وحلفائها..
إنهم يذكروننا دوما بأمور ضرورية يتناساها بعضنا ويحاول تزويقها البعض الآخر (تنسيقيات البيئة ومن على شاكلتهم..) لعل أهمها أن هذه المدينة محكومة بالموت مثلها مثل سائر المدن وأن جوهر الحكم لازال هو ذاته طالما أن الائتلاف الحاكم هو ائتلاف طبقي لأعداء الشعب مهما تغير شكله وتحورت شعاراته وأنه لا فرق بين إخواني ولا شعبوي إلا بالشكل وبالمقابل فإن دماء شهيد عقارب تذكرنا جميعا أن العيش يستوجب النضال ومزيد من النضال وتبدد أوهام” تصحيح المسار” وشعارات الانقلاب الجوفاء والمغرقة في الشعبوية.
مروان مجادي