بقلم: حمّه الهمامي
أخيرا نطق الصادق بلعيد. وتوجه برسالة إلى الرأي العام. ونشر نسخة من مشروع الدستور الذي صاغته “اللجنة الوطنية الاستشارية….” التي عُهِدَ إليه برئاستها، وقدّمه بنفسه إلى قيس سعيد. وكيْف للرجل ألّا ينطق بعد كل الذي فعله به وفيه تلميذه المتربع اليوم على سدة الرئاسة. ودون الخوض في جزئيات رسالة بلعيد التي طغى عليها الشعور بالغدر، ولا في جزئيات مشروع الدستور الذي قدمته “لجنته”، إلى قيس سعيّد، فإن جملتين هامتين وردتا في الرسالة يستدعيان التوقف السريع عندهما قبل الخوض في الباقي في وقت لاحق:
الجملة الأولى:
“من واجبنا الإعلان بكل قوة وصدق أن النص الذي وقع نشره في الرائد الرسمي والمعروض للاستفتاء لا يمتّ بصلة إلى النص الذي أعددناه وقدمناه لسيادة الرئيس وعليه فإنني بصفتي الرئيس المنسق للهيئة الوطنية الاستشارية، وبعد التشاور مع صديقي الأستاذ أمين محفوظ وموافقته، أصرّح بكل أسف وبالوعي الكامل للمسؤولية إزاء الشعب التونسي صاحب القرار الأخير في هذا المجال، أن الهيئة بريئة تماما من المشروع الذي طرحه سيادة الرئيس للاستفتاء الوطني”.
ما هي العبرة من هذا: إن قيس سعيد استعمل، كما نبّه إلى ذلك العديد من المتابعات والمتابعين، “اللجنة” مجرد غطاء لتمرير مشروعه المعدّ سلفا. وهو ما يؤكّد أن الرجل، مخاتل، متحيّل وليس أهلا للثقة (موش ثقة). وهو ما يميّز مسيرته منذ انقلاب 25 جويلية. يقول الشيء ويفعل نقيضه. جاء لشهر وهو الآن في شهره الحادي عشر. جاء لإجراء “إصلاحات” وهو الآن يقدم دستورا بعد أن حل جل المؤسسات وأخضع ما تبقّى منها…
الجملة الثانية:
“إنّ ما يدفعني إلى الصّدح بالحقيقة يتخطّى الحرص على احترام الشكليات المتداولة عموما في شأن العهدات الاستشارية ليتعلق بالأصل وإلى ما نعتبره أخطر بكثير، ذلك أنّنا نرى أن النص الصادر عن رئاسة الجمهورية ينطوي على مخاطر ومطبّات جسيمة من مسؤوليتي التنديد بها. وبما أن الظرف لا يسمح بالإطالة سأكتفي بالإشارة إلى البعض منها:
……..
-رجوع مريب إلى الفصل 80 من دستور 2014 حول “الخطر الداهم” يضمن من خلاله رئيس الدولة صلاحيات واسعة في ظروف يقرّرها بمفرده ما من شأنه التمهيد لنظام دكتاتوري مشين.
-انتفاء المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية
…….”
ما هي العبرة من هذا: رغم أن الصادق بلعيد غضّ الطرف عن العديد من الأشياء الواردة في دستور قيس سعيد حول الصلاحيات المطلقة لرئيس الدولة، لأنه مورّط في صياغتها ومتفق عليها أو على أهمها، ولم يركّز إلا على بعض الجوانب فإنه خلص أخيرا إلى الإقرار بالنوازع الدكتاتورية الخطيرة لصاحبه، واعتبر أن من واجبه التنديد بها.
الخلاصة: أقرب المقربين لقيس سعيد يعترف عمليّا أنّه انقلابي وأنه ليس أهلا للثقة (هذا تعبيرنا نحن بالطبع)، وأنه يمهّد، ببعض ما يفعله، لنظام دكتاتوري مشين. بعد هذا ممّن سننتظر شهادة أبلغ من هذه الشهادة لنقتنع بحقيقة الرجل وطبائعه ومشاريعه؟
إن السؤال يطرح اليوم على البقية، على الأحزاب والجمعيات والأشخاص الذين شاركوا في المهزلة أو لنقل على أغلبهم لأن البعض منهم لا رجاء فيه: هل ستواصلون الوقوف إلى جانب قيس سعيّد؟ هل ستدعون الناس إلى التصويت على شخص يعدّ لإرساء دكتاتورية؟ هل تواصلون القبول بما لا يقبل أخلاقيا وسياسيا؟ هل هذه ديمقراطيتكم؟
هل هذا نظيفكم ونزيهكم؟
لم يعرف التاريخ مطلقا مستبدّا أو دكتاتورا نظيفا ونزيها.
إن الاستبداد أداة سياسية للاستغلال والتفقير والتدمير.
أليس الوقت للانتفاض على الأوهام التي زرعها فيكم سعيّد ومراجعة مواقفكم بكل شجاعة، لأن سعيد، مثله مثل الذين سبقوه، ليس له ما يقدم غير الاستبداد والجوع والظلام، لأن مشكلة سعيد ليست مع “الإسلام السياسي” وإنما مع الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية، وخلافه مع “النهضة” ليس حول توظيف الدين وإنما حول من يوظّف الدّين ويستفيد منه؟
ألم تلاحظوا أن حركات ما يسمى “الإسلام السياسي” صامتة إلى حدّ اللحظة؟
إن أصحاب المصلحة الحقيقيين في مشروع قيس سعيد وفي عودة الاستبداد والدكتاتورية ليسوا بنات الشعب وأبناءه الكادحين والفقراء والمثقفين والمبدعين وغالبية النساء والشباب الذين يستعملهم سعيّد حطبًا، وإنما هم بيروقراطيو الدولة وحفنة العملاء المرتبطين بالخارج وأصحاب الرأسمال المال الأجنبي المختفون في الوقت الحاضر وراء الستار، إلى أن يُسْتَعْمَلَ الشعب حطبا في هذه المعركة ثم يظهرون بعد ذلك ليلقوا بالطمّاعين جانبا ويحتلوا صدارة الأحداث ويمسكوا بزمام الأمور.
فلنفوّت على الشعبويّة فرصة تعزيز مشروعيتها الباطلة ولنعمل بقوة على مقاطعة مهزلة استفتاء 25 جويلية وإسقاطها ولنفرض خيارا جديدا بعيدا عن منطق التخويف من “عودة الإخوانجية” لفرض القبول باستبداد سعيّد بحجة اجتناب الفراغ…فلنتجاوز ثنائيات التضليل واستقطاباتها ولنقل “لا” لما قبل 25 جويلية بفشله وفساده ولا للدكتاتورية الشعبوية الزاحفة ونبلور معا بديلنا المستقل وهو أمر ممكن ولا يتطلب غير الإرادة السياسية …الحل هو في الخط المستقل عن كل أقطاب الرجعية بمن فيها التي تحن إلى العودة إلى ما قبل 14 جانفي 2011…
هذا هو الطريق الذي يليق بتونس، وطنا وشعبا وتاريخا وثورة…وهو طريق صعب لكنه الأسلم…
قاطعوا الاستفتاء…
أسقطوا دستور الاستبداد قبل أن يتحوّل إلى إنجيل كلّ الطغاة…
تونس في 3 جويلية 2022