منذر خلفاوي
في مختلف مراحل الصّراع الفلسطيني – الصّهيوني خرج الشّعب التونسي إلى الشّوارع مثل بقيّة شعوب العالم، وفي مقدّمته القوى الثّورية والدّيمقراطية، للمطالبة بتجريم التطبيع، وهو ما أكدته التحركات الشّبابية والشعبية خلال المعركة الحالية، معركة طوفان الأقصى. لكن وكما كان الأمر قبل الثورة فإنّ مختلف حكومات ما بعد الثورة لم تشذّ عن القاعدة في التهرّب من ذلك ورفضه. فما الذي يفسّر هذا التّمترس لرفض إصدار قانون يُجرّم التطبيع؟
المؤكّد أنه ثمة تدخّل مباشر من الدّول الغربية الإمبريالية عبر سفرائها لمنع الوقوف الصّريح وخاصة العملي إلى جانب المقاومة، وهو ما يتمّ عبر أجهزة المخابرات والجواسيس والعملاء في شتّى الميادين الديبلوماسية والإعلامية، الخ. لكن الأهمّ من كل ذلك هو طبيعة منظومة الحكم في بلادنا التي تشمل أجهزة الحكم التنفيذية والعسكرية والأمنية والقضائية. هذه المنظومة الممثّلة لطبقة الكمبرادور العميلة المتنفّذة اقتصاديا وماليا وتجاريا… والتي “تسمح” بالتدخّل الخارجي في الشأن الدّاخلي والخارجي لبلادنا ولا تعترض على اسْتِباحة استقلاله وكرامة شعبه.
لأجل كل هذا لا يمكن البتّة أن يرى قانون تجريم التطبيع النّور حتى في محتوياته الدّنيا، لأنّ الدولة الممثّلة السّياسية للطبقة المُهيمِنة العميلة لن تسمح بقانونٍ يعاقب ويجرّم من له علاقات مع الكيان الصهيوني في شتّى المجالات الاقتصادية والمالية والتجارية والثقافية والفنية، الخ. ومن له ارتباطات مع المؤسّسات المالية الدولية التي تهيمن عليها الامبريالية الغربية راعية الكيان المحتل. إنّه من الطبيعي أن تدافع عن مصالحها وأمنها ولا تتردّد في استعمال كلّ الأساليب من ترهيبٍ وترغيبٍ وشراء الضّمائر لمنع صدور قانون تجريم التطبيع.
لقد رفضت حركة النهضة قائدة حكم الترويكا وكذلك نداء تونس المتحالف مع حركة النهضة القانون لأنّهما بكلّ بساطة يمثّلان الطبقة الرأسمالية الكمبرادوريّة ويتبنّيان اختياراتها الاقتصادية والاجتماعية ويرضخان لتوصيات صناديق النّهب والشّركات المتعدّدة الجنسيّات، وهي تفتضح بشكلٍ كبير خاصة في أوقات الحرب على الشعب الفلسطيني ومقاومته. والشيء نفسه اليوم مع الشّعبوية اليمينية التي تُعارض مطالب الشّعب وقواه الوطنية، وهي التي تؤكد أنّها من خارج “السّيستام” لتكتشف الجماهير أنّ سعيّد ابن المنظومة، وهو رأس حربتها الآن، ولا يختلف عن سابقِيهِ لأنّه في خدمة أصحاب القرار الفعليِّين، أي أجهزة الدّولة العميقة.
إنّ الدولة ومختلف أجهزتها لا تمثل الشّعب الكادح المفقّر ولا مصالحه ولا تُناصر القضايا العادلة وخاصة القضية الفلسطينية، لذلك علينا رفع الوعي تدريجيًّا عبر الصّراع السياسي والميداني والتّعبئة بكون هذا المطلب لن تحقّقه أنظمةٌ عميلةٌ مُرْتهنةٌ إلى الخارج، وهي تناور أحيانا إمّا لسنِّ قانونٍ مُفْرغ من المضامين الحقيقيّة التي يستوجبها الصّراع مع الكيان الغاصب، أو ترفع الشعارات الثورية لذرّ الرماد على العيون دون أيِّ إنجازٍ عمليٍّ وهي تنتظر تراجع التحركات وزخم الاحتجاجات لتضع تلك الخطب في الأدراج.
إنّ القطع مع الصهيونية لن يتحقق إلّا في ظل أنظمةٍ عربيّة وطنية وفي ظلّ انتصار الديمقراطية الشعبية في بلادنا التي وحدها تطرح إلغاء الاتّفاقيّات العسكرية والاقتصاديّة المهينة مع الدول الامبريالية وتسنّ القوانين التي تحمي السّيادة الوطنيّة وتناهض الصهيونية…
إنّ دعم المقاومة بالمسيرات الشّعبية وجمع المُساعدات الإنسانيّة والضّغط لقطع ضخّ النفط إلى القوى الغربيّة وفكّ الحصار على غزة… لا يجب أن يحجب عنّا جوهر المطالب وأساسها، وهو الإطاحة بأنظمة العمالة لإنهاء الحصار على الشّعب الفلسطيني في أفق تحرّره النهائي.