علي البعزاوي
كثر الحديث هذه الأيام عن أهمية سنّ قانونٍ لتجريم التطبيع والتّعامل مع الكيان الصهيوني واختلفت الآراء بشأنه بين مُدافع ورافض لأسباب مختلفة. ووصل الأمر إلى تعطّل الجلسة داخل البرلمان بعد رفعها من طرف رئيس المجلس.
إنّ سنّ هكذا قانون وتفعيله على أرض الواقع بحاجة إلى إرادة سياسيّة مستقلّة عن قِوى الهيمنة وإلى قرارٍ سياديٍّ ينتصر لمبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها ولا يخضع إلى حسابات الرّبح والخسارة، فالمسألة مبدئيّة. ومثلما الحرّية والكرامة والسّيادة لها ثمن وتكلفة فإنّ سنّ قانون لتجريم التطبيع في ظلّ الوضع الحالي له أيضا ثمن وتكلفة.
إنّ تمرير مثل هذا القانون يمكن أن يكون سببًا في بعض التّضييقات الماليّة والاقتصادية من قبل القوى الامبرياليّة التي تدعم الكيان الصهيوني وتعتبره ذراعها الطّولى ووكيلها في المنطقة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، لذا تعمل دائما على دعمه وحتى التّضييق على أعدائه. لكن هذه القوى ومؤسّساتها المالية لا تعطي مساعدات مجانية أو صدقات، وهي ليست منظمات إغاثة مثلما يتخيّل البعض، ومصير بلادنا ومستقبلها ليس رهين مساعدات هذه الدول التي تبحث دائما عن تحقيق أرباح من خلال الإقراض والاستثمار المباشر وغير المباشر للتخفيف من أزماتها الدورية التي تفرضها تناقضات النظام الرأسمالي ذاتها والاستجابة لمطالب شغيلتها وشعوبها. فهي الطرف الأكثر استفادة من العلاقات الاقتصادية والمالية مع تونس، وهو ما أكّدته تجربة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي كانت سببا في تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا بغلق مئات المؤسّسات المحليّة وتسريح آلاف العمال مقابل استفادة كبيرة للاتّحاد الأوروبي من خلال تسويق بضائعه وسِلعه المختلفة في السّوق التونسية، إضافة إلى الأرباح الهائلة التي تحقّقها مؤسّساته المنتصبة في بلادنا بعرق عاملاتنا وعمالنا.
ومع هذا فإنّ التّضييقات المالية المُشار إليها يمكن تجاوزها وإبطال مفاعيلها بسهولة.
أوّلا بالعمل على خلق تعاون وشراكات مع الدول التي لا تخضع إلى الوصاية والتي تبحث بدورها عن علاقات يمكن أن تخدم مصالحها. وهي موجودة في مختلف القارات، وعديد الدول التي تربطها بتونس علاقات تعاون وتبادل تجاري لم تفرض شروطا سياسيّة مسبقة لربط هذه العلاقات أو تطويرها.
إنّ الوضع الدولي الرّاهن الذي تغلب عليه الصّراعات المُحتدِمة بين كُبريات الدول من أجل إعادة اقتسام مناطق النّفوذ في العالم وِفقا لموازين القوى الجديدة وتكريس التعدّدية القطبيّة يمكن أن يكون سانِحًا ومشجّعا للدول على اتّخاذ قرارات وسنّ قوانين واتّباع سياسات مستقلّة دون أن تكون لها تداعيات سلبية.
ثانيا باعتماد خياراتٍ اقتصادية واجتماعيّة مستقلّة خادمة لمصالح الأغلبية الشعبية، خيارات تعتمد أوّلا وأساسا على القدرات الذاتيّة للدولة وتؤسّس لاقتصادٍ وطنيٍّ مستقلٍّ يتركّز في القطاعات الاستراتيجية كالفلاحة والصناعة والبنية التحتية وغيرها، اقتصادٌ منتج للثّروة وذو قدرة تشغيلية عالية. هذا الخيار مُمكن وقادر على الحياة والنجاح إذا لقِيَ دعمًا شعبيًّا وهو سيلقى ذلك بالتأكيد لأنه يعود بالفائدة على الأغلبية الشعبيّة ويستجيب لانتظاراتها وليس حِكْرا مثلما هو الواقع حاليّا على مصالح فئة قليلة من الشعب، أي البورجوازية الكمبرادوريّة التي تحتكر أهمّ قطاعات الإنتاج وتهيمن على الحياة الاقتصادية وتكيّف الحياة السياسيّة وِفقا لمصالحها. وهي الطرف الوحيد الذي له مصلحة في رفض تجريم التّطبيع لأنّ مصالحها مرتبطة عضويًّا بمصالح القوى الامبرياليّة التقليديّة باعتبارها وكيلة لهذه القوى وتتمعّش من دور الوسيط الحامي لمصالح شركاتها ومؤسساتها. وهي قادرة في مثل ظروف تونس الحالية ونعني طبيعة الخيارات السائدة، خيارات الرّيع والتبعية والاستغلال، على خلق صعوبات من شأنها تعميق الانكماش الاقتصادي والعجز المالي.
إنّ من شأن الخيارات الوطنية والشعبية الجديدة المستقلّة سحب البساط من تحت أقدام هذه الفئة وشلّ دورها الاقتصادي والسياسي. لكن هذه الخيارات غير مُمكنة في ظلّ منظومة التبعية والاستغلال الحالية، ولا يمكن أن تتحقّق بالتنسيق معها لأنها منظومة مُنحازة طبقيًّا إلى مصالح البورجوازية الكبيرة العميلة المحليّة وكبرى الشركات والمؤسّسات الاستعمارية، وهي تضبط الخيارات العامة والسّياسات والقوانين بما في ذلك قوانين الماليّة وفق ما يخدم مصالحها.