افْتُتِحَتْ السّنة الجديدة 2024 بإيداع الصّحفي زياد الهاني في السّجن وهو مهدّد بعقوبة تتراوح بين العام والعامين وخطيّة مالية تصل إلى ألف دينار من أجل كلمة شعبية متداولة (“كازي”) قالها في برنامج إذاعي اعتبرتها النيابة العمومية مسيئة إلى وزيرة التجارة.
إن هذا الحدث يقدّم إلينا صورة عمّا يهدّد الحريات والحقوق بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من مخاطر جديدة في هذا العام الجديد. لقد كانت السنة المنقضية “حافلة” بالانتهاكات. ويكفي الرجوع إلى التقرير السنوي الذي قدمته الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في شهر ديسمبر 2023 والتقرير السنوي لنقابة الصحفيين التونسيين وبلاغاتها وتقاريرها الشهرية الأخرى وغيرهما من الهيئات الحقوقية في الداخل والخارج للوقوف عند الكمّ الهائل من الانتهاكات التي تعرفها بلادنا.
لقد كانت سنة 2023 سنة الاعتقالات السّياسية التي طالت جلّ الأطراف بتهمة “التآمر على أمن الدولة”. كما أنها كانت سنة الاعتداءات على الصحفيّين والتّضييق على حرية العمل الصّحفي سواء في الحصول على المعلومة أو حتى في التداول في بعض القضايا (قضيّة التآمر على أمن الدولة) وإخضاع المؤسسات الإعلامية العمومية بالكامل ومحاصرة المؤسسات الإعلامية الخاصة وترهيبها وملاحقة عديد المدوّنين.
وكما أن قانون الإرهاب وغسيل الأموال وبعض فصول المجلّة الجزائيّة الموروثة من عهد الاستعمار أو من العهد الدكتاتوري، مثّلت سلاحا لتجريم العمل السياسي والسّعي إلى إفراغ الساحة من أيّة معارضة للانقلاب، فقد مثّل المرسوم 54 سيّء الصّيت بل الفاشستي المتعلق بمكافحة الجرائم الإلكترونية سلاحا فتّاكا لترهيب كل ناقد أو منتقد لهذا الانقلاب.
وبطبيعة الحال فقد جرى كل هذا في نفس الوقت الذي واصل فيه قيس سعيد تفكيك كل المؤسسات والهيئات النابعة من دستور 2014 وتعويض بعضها بأطر موالية له والتخلي عن البعض الآخر. إن “الهايكا” التي ظلّت لأشهر في حالة “موت سريري” تمّ الإجهاز عليها أخيرا بإيقاف جرايات القليل من أعضائها المتبقّين. وبالطبع كانت مهزلة 24 ديسمبر الانتخابية آخر حلقة من حلقات استكمال الديكور الذي يؤثّث به سعيّد حكمه الفردي المطلق.
إن كل هذا يجعل من السنة الجديدة التي افتتحتها سلطة الانقلاب بإيداع الصحفي زياد الهاني بالسّجن سنة أخرى صعبة في مجال الحريات والحقوق، عدا كونها سنة مفاقمة التبعية والتجويع والتفقير. ولا نغالي في شيء إذا قلنا إنها مرشّحة لتكون سنة الإجهاز على كافة المكاسب الديمقراطية التي حقّقها الشعب التونسي بثورته ضدّ الدكتاتورية النّوفمبرية، سنة استكمال إرساء النّظام السياسي الجديد لقيس سعيد، أي نظام الحكم الفردي المطلق، والعودة بالبلاد، بشكل كاريكاتوري شنيع، إلى مربع الدكتاتورية التي تمثل الإطار السياسي للحفاظ في ظرف الأزمة هذا على مصالح الأقلية الكمبرادورية وخدمها من كبار بيروقراطي الدولة.
إن اعتقال زياد الهاني هو تحذير لكل الصحفيات والصحفيّين ولكل المدوّنات والمدوّنين بل لكل المواطنات والمواطنين لما ينتظرهم إذا واصلوا التجرّؤ على نقد سعيد وأعوانه من الوزراء وغيرهم. هذا في انتظار تنقيح المرسوم عدد 88 المتعلّق بالجمعيّات وما سيحتويه، حسب المشروع المُسرّب، من انتهاك لحرية التّنظيم وتكوين الجمعيات. وبهذه الصّورة يكون الإطار العام للنظام السياسي “الجديد” قد رسم بهياكله وقوانينه ولن يبقى سوى تنظيم مهزلة انتخابيّة جديدة لإعلان قيس سعيد حاكما مطلقا للبلاد بعد أن تكون كل الأبواب والنوافذ قد سُدّت في وجه انتخابات تتوفّر فيها الشروط الدنيا لانتخابات حرّة وديمقراطية.
إن هذا الوضع كلّه من شأنه أن يضع مسألة الدفاع عن الحريات والتصدّي للنهج الدكتاتوري لسلطة الانقلاب من بين أولويات القوى الديمقراطية والتقدمية. إنّ الوقت ليس للرجوع إلى الوراء والتذكير بما كنّا نبهنا إليه منذ اللحظة الأولى لانقلاب 25 جويلية 2021، ولكن علينا الآن النظر على الأقل إلى حاضرنا ومستقبلنا كي لا تُرتكب أخطاء جديدة من شأنها أن تعرقل تطور المقاومة الديمقراطية التي ما تزال بؤرها موجودة في عدة قطاعات وأن تسهّل مهمّة الاستبداد الذي يسعى سعيا محموما إلى بسط سيطرته على المجتمع.
إنّ سلطة الانقلاب تعتمد التخويف والتّرهيب وتستغل تشتت القوى الديمقراطية وتردّد فصائل منها وارتباكها للمضي قدما في تكريس مشروعها. إن الوقت الآن لتجميع الصفوف والتضامن والتصدي لكل انتهاك ولكل مظلمة دون حسابات فئوية ودون سقوط في الانتهازية تحت غطاء “التهدئة” أو “أخطا راسي واضرب” فسلطة الانقلاب لا تعرف التّهدئة وهي ماضية بلا تردد في تصفية الخصوم وتحييدهم ولا يتوقّع منها استثناء أحد، ولن يوقفها إلا النضال والمقاومة وهو ما يتطلّب الجرأة وتوحيد صفوف القوى الديمقراطية التقدمية.
ونحن إذ نركّز في هذا المقام على مسألة الحريات الفردية والعامة فليس ذلك لحرف الاهتمام عن مسائل السّيادة الوطنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعدم إدراجها ضمن أولويّات الحركة والحال أنها تتعرّض بدورها لانتهاك جسيم كما يؤكّد ذلك مضمون ميزانية 2024. ولكن لكون الحريات ومنها حرية التعبير والتنظيم والاجتماع والتظاهر والاحتجاج، هي من الأدوات الهامة التي تمكّن العمال والكادحين في المدن والأرياف والمُعطّلين عن العمل والنساء والشباب والمثقّفين والمبدعين من الدفاع عن سيادة وطنهم وعن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.
إن الاستبداد نقيض الحرية، ولكنه ليس ذلك فحسب وإنما هو الإطار السياسي الذي تحقق فيه الأقلية البورجوازية العميلة المحلية وخدمها من كبار بيروقراطي الدولة والدول والشركات الأجنبية مصالحهم. إنهم جميعا يعادون الديمقراطية لما توفره من مساحات حرية للشعب كي يتنظّم ويعبّر عن رأيه ويتصدّى لسياسة التقشف وما تعنيه من وقف للانتدابات وارتفاع جنوني للأسعار وزيادة في الضرائب وتدهور خطير لخدمات الصحة والتعليم والنقل وتردّ للمحيط وغيره من ظروف الحياة، وهو ما يجعلهم اليوم يسندون نظام الاستبداد الشّعبوي الذي يستعمل الشعارات الديماغوجية للمغالطة.
فلتكن السنة الجديدة سنة النضال من أجل الحفاظ على مكسب الحرية واسترداد ما افتك منه وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووقف التتبّعات ضد الإعلاميين والمدونين ونشطاء حركات الاحتجاج الاجتماعية، سنة تجميع الصّفوف الديمقراطية التقدمية من أجل استنهاض الحركة الشعبية حول مطالبها الأساسية وخلق شروط التخلّص من نظام الاستبداد والقطع نهائيا مع خيارات التبعيّة والتفقير والتّجويع بمختلف ألوانها وتعبيد الطريق نحو بناء تونس جديدة، حرّة، ديمقراطية، شعبية.