بقلم علي الجلولي
يحيي شعبنا بعد أيام قليلة ذكرى 14 جانفي المجيدة، وهي ذكرى انتصار الثورة في إسقاط الدكتاتور ودكّ الدكتاتورية بعد 27 يوما من الممارسة الثورية المباشرة واليومية، 27 يوما أظهرت فيها فئات الشعب وطبقاته إصرارا على الفعل الثوري رغم حجم القمع الذي لم يتوقّف عند القنابل المسيلة للدموع والإيقافات والمداهمات بل مرّ سريعا إلى الرصاص الحيّ بعد أسبوع فقط من اندلاع الحراك الاحتجاجي الذي زاده القمع تأججا. وبتصاعد حجم استعمال الرصاص وحجم شهدائه تصاعد الإصرار الشعبي على المضيّ قُدما من أجل تحقيق المطالب التي رفعتها الحناجر ولخّصتها الشعارات.
لقد مرّت هذه المطالب من المطالب الاحتجاجية المحدودة التي عبّرت عنها تحركات مدينة سيدي بوزيد بُعيد احتراق الشاب المهمش “محمد البوعزيزي” من خلال مسيرات تدين “الحقرة” والسلوك القهري لأعوان السلطة الذين يتغاضون عن جرائم “الكبار” ويحمونهم ويتجهون لـ”الصغار” لإهانتهم وامتهان كراماتهم لأبسط الأسباب. واجهت السلطة الاحتجاج العفوي للناس بعنجهيتها المعهودة، لكن هذه المرّة فشلت في ترويع الناس وفرض الصمت عليهم، فقد تسرّب الاحتجاج كالنار في الهشيم، وكلما زاد القمع زاد الانتفاض وبتصاعد. وفي ظرف أيام معدودة تحوّل فعل الاحتجاج من مدينة سيدي بوزيد إلى مجمل تخومها أي معتمدياتها وقراها ولم ينتهِ الأسبوع إلا وكانت مجمل هذه الولاية على صفيح ساخن لتسلّل نيرانها تدريجيا إلى محيطها القريب (ولايتي قفصة والقصرين) والتي واجهها نظام الطاغية بمنسوب أعلى من العنف الذي أبرز بكل وضوح رعبه من تمدّد الانتفاضة، فصعّد القمع واستنفر كل قواته القمعية لتتجه إلى مثلث الانتفاضة (سيدي بوزيد/قفصة/ القصرين)، فانفلق السيل الثوري ليشمل كل البلاد ولتتحوّل الشعارات تدريجيا من الاحتجاج على القمع إلى الاحتجاج على الفقر والبؤس إلى المطالبة برحيل عصابة الحكم دكتاتورا وعصابة عائلية (الطرابلسية) وحزبا وأجهزة، ولم ينته الأسبوع الأول من شهر جانفي المجيد إلا وكان الشعار العام في كل الجهات : الشعب يريد إسقاط النظام، شعار عُمّد بدماء المجازر في تالة والقصرين (خاصة بين 5 و9 جانفي 2011) حيث أمضى النظام بأجهزته القمعية من بوليس وجيش على شهادة موته، وهي الشهادة التي وقْعتها الطبقة العاملة وحركتها النقابية يوم 12 جانفي حين تزلزلت الأرض في صفاقس عاصمة الحركة النقابية والعمّالية على إيقاع شعار “ديقاج” الذي أصبح الشعار المركزي للجماهير الثائرة وهو ما حقّقته يوم 14 جانفي مع الإضراب العام النقابي في العاصمة والاختراق الجماهيري الضخم لشارع بورقيبة الذي ظل لعقود “منطقة أمنية مسيّجة”، فإذا بالجماهير تبلغ عتبات “وزارة الوزارات” الوزارة/الغول التي ظلت تحكم تونس لعقود، وإذا بالمنتفضين يتسلّقون شبابيكها وعشرات الآلاف من الحناجر تنادي “ديقاج” ملتحمة بمئات الآلاف في مختلف مدن تونس وقراها والتي لم تنم ليلتها إلا بعد رؤية طائرة الدكتاتور تفرّ به.
إن هذه السردية ليس الغرض منها العرض والاستعراض، على أهميته ونحن نحيي ذكرى الثورة المجيدة بانطلاقتها وبانتصارها على الطاغية والتاريخ الأخير (أي 14 جانفي) مستهدف بالشطب والإلغاء لأسباب لا يعلمها إلا المتفقهون في التفسير. إن الغرض هو شدّ الانتباه إلى أنّ ما حدث في بلادنا هو ثورة فعلية وحقيقيّة من جهة اندلاعها والفاعلين فيها وشعاراتها، وهي ثورة ارتبطت وكانت نتاجا لأزمة ثورية كانت مؤشراتها سابقة ليوم 17 ديسمبر، فقد كان هذا اليوم بأحداثه التي قد تبدو للبعض اليوم أحداثا غير ذات معنى، لكنها مثّلت القادح الذي أجّج ثورة شعبية عميقة دكّت نظاما من أعتى أنظمة الاستبداد في المنطقة، ودشّنت سيرورة ثورية طالت عديد البلدان وفرضت تغيرات جيواستراتيجية لازالت شظاياها تتناثر هنا وهناك. وقد تدرّجت الثورة من ردّ الفعل الاحتجاجي إلى الانتفاضة الاجتماعية التي عبّأت أكثر الطبقات والفئات الاجتماعية تضرّرا، من مهمشين ومعطلين وفئات وسطى، انتهاء بالطبقة العاملة التي كان التحاقها متأخّرا وبالفلاحين الذين كانت مشاركتهم متفاوتة من جهة إلى أخرى، إذ خرج الفلاحون لإعادة طرح مطالبهم التي خرجوا من أجلها إلى الشوارع منذ 2008 في أرياف سيدي بوزيد (الرقاب، بن عون، الحفي…) والقصرين (سبيطلة، فريانة…) وجندوبة (وادي مليز…) وصفاقس (الصخيرة…) والمهدية (السواسي، ملولش…)، وهي مطالب تهمّ العلف ومياه الريّ..
لقد التحقت كل الطبقات المتضرّرة وإن بأحجام مختلفة ومتفاوتة، وتصدّر المسار المعطلون ثم الفئات الوسطى (موظفون، محامون…)، وتعمّقت بفضل اتّساع رقعة الالتحاق بالفعل الاحتجاجي النهاري والليلي الأزمة الثورية التي تجلّت ملامحها بوضوح من خلال مظهر أوّل يتمثل في عدم قبول الجماهير أن تواصل العيش كما كانت يوم 16 ديسمبر، أي مع الدكتاتورية القائمة، وعدم قدرة السلطة بمختلف أجهزتها على مواصلة حكم البلاد رغم التصعيد الرّهيب لعنف الدولة ثم الادّعاء بالتنازل والاستجابة لبعض المطالب (الخطاب الأخير لبن علي).
لقد تفاعل الشرطان تفاعلا عضويًّا وكرّسا على الأرض سيرورة ثورية لم ينقصها إلا شرط القيادة السياسية والتنظيمية ممثّلة في حزب أو جبهة ثورية. هذا لا يعني أن ما كان يجري لم يكن منظّما، لكنه كان منظّما بأشكال تنظيم عفوي، غير ممركز، أفقي متمثل في أطر نقابية حينا وجمعويّة حينًا آخر، وهي أطر غالبا مسيّسة ومرتبطة بالأحزاب والتيارات التقدمية التي انخرطت بسرعة في الحراك ولعبت ما أمكنها من أدوار للحفاظ على جذوة الحركة وتصاعدها، وكذلك في الأطر المفتوحة لشباب الأحياء الشعبية من المعطلين وخاصة خريجي الجامعة الذين ينحدر لفيف واسع منهم من تجارب طلابية وسياسية تقدمية وجدت وعائها الأبرز في اتحاد المعطلين.
إن غياب الإطار التنظيمي للفعل الثوري، أو ضعفه، كان له التأثير الحاسم في مآل الثورة التي حقّقت انتصارا كبيرا على الدكتاتورية بدكّها وإسقاط رأسها، لكن دون استكمال بقية المهمّات التي يجب إنجازها وهي افتكاك السلطة. ففي مساء 14 جانفي سقط بن علي ولكن لم يسقط نظامه. لقد تفكّك النظام بعد تلقّي ضربات موجعة، واختلطت الأوراق داخله وتهاوت كتل لتصعد أخرى ولم يطلع فجر يوم 15 جانفي إلاّ ورتّبت البرجوازية مصير الحكم ومرّت إلى “التغيير المرن”، أي من داخل نفس المنظومة التشريعية والقانونية السائدة التي انتفض ضدها الشعب. لقد انعكست الموجة الثورية العالية على السلطة وأجهزتها ومكوناتها التي عاشت فعلا الارتباك تحت ضربات وإصرار الشعب الثائر، فراحت بعض أجهزة النظام تتصرّف لإنقاذ نفسها وراحت أخرى تروّج أو تدّعي “الانحياز للشعب”، وهو وضع موضوعي عاشته كل الثورات في التاريخ.
وتمّ حسم مآل السلطة للأكثر جاهزية كما هو الحال في مجمل ثورات التاريخ القديم والجديد والقادم. ولئن أرادت البرجوازية غلق قوسي الثورة، إلا أن مسارا جديدا انفتح أمام النضال السياسي الجماهيري لشعبنا لأوّل مرة في تاريخه حقّق فيه مكاسب وأخفق في تحقيق المطالب الجوهرية التي لا يمكن افتكاكها ما لم يتمّ افتكاك السلطة من التحالف الطبقي المسيطر إلى الطبقات الكادحة والشعبية المنتفضة وهو جوهر كل الثورات في التاريخ.
إن الأزمة الثورية هي لحظة فارقة في تاريخ المجتمعات، وضياعها أو عدم الانخراط فيها لحسم مسألة السلطة من شأنه أن يخلق مصاعب جمّة للنضال الطبقي والسياسي. والأزمة الثورية على العموم هي استجابة لشروط موضوعية وذاتية في الآن ذاته، وعندما يغيب الجانب الذاتي أو يكون ضعيفا أو مقصرا أو مخلّا فهذا ستكون له كلفة باهظة ليس أقلّها انتظار فترات زمنية قد تطول لاستئناف المسار الثوري أو لاستعادته من جديد.
إن الصراع الذي يقابل بين الثورة والثورة المضادة هو قانون عام في التاريخ وفي المجتمعات، ومثلما تعمل الطبقات والقوى الثورية من أجل التغيير وقلب علاقات الإنتاج نحو العدالة والاشتراكية، تعمل الطبقات والقوى الرّجعية من أجل تأبيد الوضع السائد وفي أحسن الحالات إدخال مساحيق على شكل السلطة دون المسّ من جوهر الدولة كهيئة للسيادة الطبقية.
إن خلاصة تجربة الثورة التونسية في مختلف مراحلها تؤكّد أن الثورة لا يجب أن تكون غاية في ذاتها، بل هي أداة لتغيير المجتمع وقلب الخيارات السائدة فيه من خيارات استغلالية وقهرية إلى خيارات تحرّرية. وطالما لم تحسم الثورات والمسارات الثورية المنبثقة عنها مسألة القيادة الموحّدة ببرنامجها الموحّد وآليات تنظيمها الموحّدة، فإن المآل لن يكون الانتصار، وطالما لم تنتبه القوى الثورية إلى هذه الشروط فإنها لن تذهب بعيدا وستبقى المكاسب التي حقّقتها الثورة بدماء أبنائها وبناتها قابلة للانتكاس والتراجع والتصفية كما يحدث اليوم في بلادنا.