(الجزء الأول)
بقلم مرتضى العبيدي
خلال العقد الأخير، شهدت إفريقيا عودة قوية إلى ظاهرة الانقلابات التي عرفت بعض الخفوت خلال العقدين السابقين، ممّا أعطى الانطباع أنّ القارة الإفريقية التي تكاد تٌعرّف بكونها موطن الانقلابات هي في طور التعافي والتطبيع مع الأنظمة المدنية القائمة على دساتير وتقاليد التداول السلمي الى غير ذلك. ذلك أن إفريقيا شهدت منذ سنة 2012 ما لا يقل عن 45 انقلابا عسكريا أو محاولة انقلابية، أي بمعدل 4 انقلابات سنويا، وهو المعدل الذي حافظت عليه في العشريّات التالية للاستقلالات الشكلية. إذ تشير الإحصائيات إلى أن إفريقيا شهدت منذ ستينيات القرن الماضي ما لا يقل عن 200 انقلابا جدّت في 90 بالمائة من البلدان الإفريقية، أي بمعدل انقلاب كل 55 يوم تقريبا. وسجّلت بلدان غرب إفريقيا أكبر عدد منها بنسبة 44.4% من المجموع.
لكن اللّافت للانتباه أن خطابات قادة الانقلابات الأخيرة في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وجميعها من المستعمرات القديمة لفرنسا اتّسمت بنبرة عالية مناهضة لهذه الدولة الاستعمارية السابقة، مطالبة إيّاها بالخصوص بسحب قواتها العسكرية المتمركزة بعدُ في هذه البلدان بدعوى مساعدتها على التصدّي لظاهرة الإرهاب المستشرية في بلدان الساحل والصحراء، ممّا جعلها تُحظى بنوع من التعاطف الشعبي، بغضّ النظر عمّا آلت وستؤول إليه نتائجها في قادم الأيام.
فلماذا تُستهدف فرنسا بالذات؟ هل يعني ذلك أنها القوة الاستعمارية الوحيدة في القارة الإفريقية أم يدخل ذلك في إطار صراعها مع قوى أخرى تراهن على الفوز بإفريقيا باعتبار ما تزخر به من إمكانيات بشرية وطبيعية ومواقع استراتيجية حاسمة؟
فرنسا: من الاستعمار المباشر إلى العهد الاستعماري الجديد
والمعلوم أن الإمبريالية الفرنسية التي هزمتها النازية في عقر دارها في الحرب العالمية الثانية اضطرّت إلى الاعتماد على أفريقيا وثرواتها الهائلة البشرية منها والطبيعية: المواد الخام والموقع الجيوستراتيجي، لإيجاد مكان لها إلى جانب القوى الإمبريالية الكبرى الأخرى. خلال تلك الفترة، عندما بدأت شعوب العالم المستعمرة، التي كانت تقاتل أيضًا ضد الوحش النازي، في طرح مشكلة تحرّرها من الهيمنة الأجنبية، نزل الجنرال ديغول في برازافيل عام 1944 ليرسم الحدود ويذكّر بأن الارتباط بين فرنسا ومستعمراتها “نهائيٌّ”، وليرفض أي إمكانية للتطور خارج “الكتلة الفرنسية” وأي نوع من الدساتير يفضي إلى شكل من أشكال الحكم الذاتي. وفي عام 1958، عاد ديغول مرة أخرى إلى برازافيل ليقترح إطارًا رسميًا للحفاظ على الإمبراطورية الفرنسية من خلال ما أسماه “وحدة المصير” التي لم تكن تعني سوى استبدال الاستعمار المباشر بإقامة منظومة الاستعمار الجديد التي كانت في عديد جوانبها أشدّ وطأة على شعوب القارّة.
وفي الواقع، لم تكن الاستقلالات المصطنعة لعام 1960 سوى نسخة مقنّعة لما اقترحه ديغول في برازافيل سنتان قبل ذلك، حيث أبقت بروتوكولات “الاستقلال” على اليد الطّولى لفرنسا في كل ما يتعلق بحياة تلك الشعوب ومصائرها. إذ أن تلك الاتفاقيات، التي تمثل الإطار القانوني للعهد الاستعماري الجديد الذي لا يزال ساريًا، تتيح لفرنسا المصادرة التلقائية لاحتياطياتها المالية بالفرنك الأفريقي وعواقب ذلك، وحقها في وضع يدها على أي مواد خام يتم اكتشافها في البلاد، والأولوية للمصالح الفرنسية والشركات في العقود العامة والمناقصات العامة، والواجب الحصري لتوريد المعدات العسكرية وتدريب العسكريين، والالتزام باستخدام اللغة الفرنسية كلغة رسمية للبلاد والتعليم، وضرورة موافقة فرنسا قبل إقامة علاقات عسكرية مع أي دولة كانت، ونشر قوات عسكرية في العديد من دول القارة. وحتى اليوم، توجد خمس قواعد دائمة للجيش الفرنسي في إفريقيا تحتضن قوة عسكرية قوامها 3000 جندي (جيبوتي، أبيدجان، ليبرفيل، داكار). تضاف إليها “القوات المسلحة لمنطقة جنوب المحيط الهندي” (FAZSOI) المتمركزة في جزيرتي “ريونيون” و”مايوت” بقوة عاملة تبلغ 1900 جندي. وتسمح هذه القواعد الدائمة و”القواعد المؤقتة” مثل “برخان” التابعة لـ “العمليات الخارجية” (OPEX) بإقامة شبكة من منطقة الساحل إلى القرن الأفريقي. ويوجد ما يقرب من 10 آلاف جندي فرنسي متواجدين بشكل دائم في القارة، ممّا يجعل فرنسا الدولة التي لديها أكبر عدد دائم من الجنود في أفريقيا.
المصالح الاقتصادية للشركات الفرنسية متعددة الجنسيات في إفريقيا
إن الإمبريالية هي في المقام الأول واقع اقتصادي قبل أن تكون ممارسة عسكرية. فالأول هو الأساس المادي والسبب الحقيقي للثاني. فالاستراتيجية العسكرية الفرنسية في أفريقيا تهدف بوضوح إلى الدفاع عن المصالح الاقتصادية الفرنسية. إذ يؤكد الخطاب المتكرّر لقادة فرنسا على التوترات الدولية المرتبطة “بالإمدادات الاستراتيجية” و”المنافسة المتزايدة مع البلدان الناشئة” في قارة غنية “بالمواد الأولية الخام وموارد الطاقة” التي تشكل “ثروة حيوية للاقتصاد العالمي وهو ما يفسر نشر فرنسا لقواتها العسكرية في إفريقيا، من أجل حماية شركات توتال، وبولوريه، وبويج، وفينشي، وداسو، ومطارات باريس وسافران وغيرها (Total, Bolloré, Bouygues, Vinci, Dassault, Aéroports de Paris, SAFRAN, etc.)
التعويل على العملاء
وفي مواجهة الاستقلالات الزائفة لعام 1960، لم تستسلم الشعوب الإفريقية قطّ، بل إن نضالها ومقاومتها للإمبريالية الفرنسية يرتبط ارتباطا وثيقا بالنضال ضد أتباع فرنسا، أي العملاء الذين وضعتهم في السلطة في أفريقيا لمراقبة مصالحها وحمايتها. إن الإطاحة برؤساء الدول الذين لا يؤيّدونها والسعي إلى تعيين عملاء مخلصين لها، كان ولا يزال السلوك الدائم للإمبريالية الفرنسية. هكذا اغتالت فرنسا في توغو سيلفانوس أوليمبيو لتضع عميلها إياديما مكانه. وفي بوركينا فاسو، اغتالت توماس سانكارا، وفي ساحل العاج أطاحت بلوران غباغبو لتعيين الحسن واتارا، وكيلها المعتمد، مكانه؛ والأمر نفسه حدث في ليبيا مع الإطاحة بالعقيد القذافي واغتياله.
الشعوب تقاوم
في مواجهة تصرفات الإمبريالية الفرنسية هذه، ينمو الوعي المناهض للإمبريالية ويتطوّر بطريقة متسارعة. ولا بد من القول إن ما يساعد على ذلك هو تطور الوعي الرافض لمختلف أشكال الهيمنة والقمع في جميع أنحاء العالم. وعلى مستوى الشباب الأفريقي في ما يسمى بأفريقيا الناطقة بالفرنسية، اتّخذت المعركة ضد الفرنك الإفريقي جوانب مذهلة من خلال المسيرات والاحتجاجات. وقد نجحت هذه النضالات اليوم في كسب تأييد جزء من البرجوازية الكبرى في أفريقيا، والتي تتعارض مصالحها مع تصرفات الإمبريالية الفرنسية. وهذا هو أصل إنشاء عملة منظمة التعاون الاقتصادي لدول غرب إفريقيا التي تحاول فرنسا نسفها مع وكيلها الحسن واتارا.
وفيما يتعلق بفرض اللغة الفرنسية كلغة رسمية للمستعمرات الفرنسية السابقة، فإن معارضة هذا الأمر تتزايد، والشعوب تعلم أنه لم يتمكّن أي شعب من التطور باستخدام لغة شعب آخر، ويتمّ اليوم اتخاذ مبادرات في كل مكان من إفريقيا لوضع حد لهذه المشكلة، لهذه البدعة التاريخية.
وفيما يتعلق بالقواعد العسكرية الفرنسية، فإن معارضة الشعب تزداد شراسة. بعد اغتيال العقيد القذافي، قامت الإمبريالية بملء منطقة الساحل بالإرهابيين من أجل إيجاد فرصة لترسيخ وجودها هناك. ولهذا السبب، أرسلت قواتها إلى مالي لمحاربة الجهاديّين. وبعد تسع سنوات، أدرك الشعب المالي الخداع وأطرد القوات الفرنسية من مالي بدعمٍ هائل من جميع الشعوب الإفريقية. واليوم، تتجوّل قوات “برخان” بحثا عن مستقرّ جديد لأنها مرفوضة من قبل الشعب الأفريقي الذي لم يعد يريد وجود قوات أجنبية على أراضيه. واضطرّت فرنسا تحت الضغط الشعبي لسحب قواتها في كل من بوركينا فاسو والنيجر في نهاية العام المنقضي. (يتبع)