بقلم إلياس بن عمار
نقابي – عضو مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة
بالتوازي مع محاولاتها توجيه الرأي العام نحو قضايا الفساد للتغطية عن عجزها في إيجاد البدائل الحقيقية التي تخرج البلاد من الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي، تقوم السلطة بالدعاية لمشاريع أقلّ ما يقال عنها أنها تكريس للتبعية واستمرار للبرامج القديمة المعتمدة على حدّ السواء من طرف الحاكمين للبلاد قبل وبعد 14 جانفي 2011.
ولعل مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا أحد أهم هذه الأمثل المشاريع والتي انطلقت الجوقة الدعائية للسلطة في التطبيل له واعتباره الحل لمعالجة الإشكاليات الطاقية للبلاد (خصوصا على مستوى الطاقة الكهربائية). هذا المشروع سيساهم – على حدّ تعبير السلطة – في إدماج دول شمال إفريقيا بسوق الكهرباء الأوروبية والسماح للمستثمرين الأجانب المنتصبين بتونس من تصدير الكهرباء المنتجة عبر الطاقات المتجدّدة مستقبلا. كذلك سيساعد الربط – حسب زعم السلطة – في ضمان تصريف الفوائض الطاقية المنتجة بأوروبا نحو بلدان شمال إفريقيا وتحديدا تونس في المستقبل المنظور أملا في التمتع بتكلفة أقل للإنتاج !!!
1. لمحة عن مضمون المشروع:
يعود مشروع الربط الكهربائي لسنوات 2008 و2009 وحينها كان يتضمن ما يلي:
- تركيز محطة إنتاج بقدرة إسمية تساوي 1200 ميغاوات في التراب التونسي: 800 ميغاوات للتصدير نحو إيطاليا و400 ميغاوات للاستهلاك المحلي.
- خط كهربائي ذو اتّجاه وحيد (من تونس نحو إيطاليا) بقدرة قصوى تساوي 1000 ميغاوات.
لكن بعد الموجة الثورية بتونس وانتهاز المؤسسات المالية العالمية فرصة وجود حكومات ضعيفة والرغبة في دفع عملية الخوصصة بالبلاد لأقصى حدّ بالإضافة للتغييرات التي طرأت على هيكلة السوق الإيطالية للكهرباء وتوفر فوائض خصوصا في الجنوب الإيطالي مع تنامي تركيز محطات الطاقات المتجددة، تم تعديل صيغة المشروع لتصبح كالآتي:
- العدول عن إنجاز محطة إنتاج الكهرباء بالتراب التونسي.
- تركيز خط كهربائي ذو اتجاهين (من وإلى تونس – إيطاليا).
- إدماج الربط الكهربائي في إطار إقليمي بين أوروبا وشمال إفريقيا وعدم الاكتفاء بالتبادل بين تونس وإيطاليا.
هذا التغيير في صيغة المشروع بالإضافة للأزمة الطاقية بأوروبا نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية جعله محط أنظار المؤسسات المالية العالمية التي تهافتت على تمويله.
هذا التمويل الذي اتخذ شكل قروض للبلاد التونسية ممثلة في الشركة التونسية للكهرباء والغاز فيما اكتفى الجانب الإيطالي ممثلا في شركة “تيرنا” بالتمويلات الذاتية من أجل رفع عوائد المردودية له. أمّا الاتحاد الأوروبي فقد ساهم عبر تقديم هبة للطرفين باعتبار المشروع يخدم مصالحه الاستراتيجية.
وقد اتخذت التمويلات المقدمة للشركة التونسية للكهرباء والغاز الشكل التالي:
2- الأوهام المضمنة بالخطاب الرسمي حول المشروع:
– ضمان الأمن الطاقي والاستقلالية الطاقية:
إن الاعتماد على الربط الكهربائي باعتباره ضمانة لتحقيق الأمن الطاقي يعبر عن ضيق أفق متخذي القرارات في تونس الذين عوض الاعتماد على الذات وتعبئة الموارد يواصلون نفس المنوال في الاعتماد على الخارج لتلبية حاجياتنا من الطاقة الكهربائية مما سيزيد في استنزاف العملة الصعبة وكذلك تكريس تبعيتنا التكنولوجية التي تجعلنا الحلقة الأضعف في مجمل العلاقات الاقتصادية.
فعوض استغلال التمويلات المنصوصة أعلاه لتركيز محطات ذات مردودية كبيرة و إيجاد بدائل للغاز الطبيعي كمصدر لإنتاج الكهرباء، يتواصل اعتماد الحلول الجاهزة والمقدمة من طرف المؤسسات المالية العالمية والجهات الخارجية التي لا هدف منها سوى تحقيق مصلحتها دون اعتبار للانعكاسات على النسيج الصناعي في تونس.
وهنا لا بد من التنبيه حول خطورة المسعى لتحويل الشركة التونسية للكهرباء والغاز إلى مجرد وسيط بين المنتجين والمستهلكين والتفويت في نشاط الإنتاج للخواص سواء كانوا داخل البلاد أو خارجها.فهذه العملية ستساهم في حرمان البلاد من فوائض القيمة المترتبة على إنتاج الكهرباء وما يوفره من دفع للعملية الاقتصادية داخل البلاد والمساهمة في تشغيل و تكوين الإطارات التقنية التونسية وتعزيز الخبرات الوطنية بالإضافة لخلق أنشطة مرتبطة بهذه العملية جهويا ووطنيا. هذا كله سيستفيد منه مصدري الكهرباء من السوق الأوروبية نحونا لكي نبقى مجرد مستهلكين دافعين للكلفة مع الفوائض الربحية المترتبة عنها دون الاستفادة منها.
– التخفيض من كلفة إنتاج الكهرباء:
تعتبر هذه ” الكذبة ” إحدى الدعائم للتطبيل لمشروع الربط.فمواجهة الارتفاع المستمر لأسعار الغاز الطبيعي الذي يعتبر المصدر الأساسي لإنتاج الكهرباء في تونس يقتضي – حسب رأي الجهات الرسمية – جلب الكهرباء من أوروبا حيث الأسعار منخفضة دون تكبد عناء الإنتاج.
إن التضليل الذي تمارسه السلطة في هذا المجال والمقدم للرأي العام كما لو كان حقيقة مطلقة يمكن نسفه إذا تفحصنا حقيقة كلفة إنتاج الكهرباء في تونس وأوروبا:
ولسائل أن يسأل ما هي كلفة إنتاج الكهرباء في تونس ؟ بالنسبة لسنة 2022 فإن كلفة إنتاج الكهرباء (دون احتساب كلفتي النقل والتوزيع) تساوي حسب تقارير الشركة التونسية للكهرباء والغاز 283.2 مليم / الكيلوات ساعة .كما أن كلفة الإنتاج للمحطات الكبيرة والتي تمثل حوالي 75 % من الإنتاج الجملي لم تتجاوز 260 مليم / الكيلوات ساعة. مع العلم أن كلفة الإنتاج لبعض وحدات الإنتاج انخفضت لما يقارب 240 مليم / الكيلووات ساعة. وللقارئ سديد النظر في الحكم و الاستنتاج.
لا يفوتنا التذكير في هذا الباب أن كلفة الإنتاج مرتبطة ارتباطا وثيقا بنوعية التجهيزات وكذلك بأسعار المحروقات خصوصا الغاز الطبيعي وهذا يعني وجود احتمالية الكلفة الأقل في أوروبا ولكن هذه الاحتمالية متغيرة حسب الظروف وليست هناك مؤشرات في الوقت الراهن تدعمها وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها لتبرير مشروع الربط.
كذلك يبرر البعض اللجوء لأوروبا لاستيراد الطاقة الكهربائية باعتبار أن ذروة الاستهلاك مختلفة بمعنى ان ذروة الاستهلاك في تونس تقابلها تدني في الاستهلاك في الضفة الشمالية للمتوسط ولكن طبيعة هيكلة السوق الطاقية هناك تثبت العكس .فنلاحظ مثلا أن أدنى معدل سعر خلال شهر جويلية 2022 في أوروبا كان 300 يورو/ ميغاوات ساعة أي ما لا يقل عن 900 مليم / كيلووات ساعة .
– تحسين شروط سوق الطاقات المتجددة:
من الدعاوي التي تروجها السلطة لتبرير مشروع الربط هو تحضير البنية التحتية بغاية جلب الاستثمارات الأجنبية في مجال الطاقات المتجددة و فسح المجال أمام إدماجها ضمن السوق الأوروبية (للتمتع بالامتيازات و التحفيزات الموجودة هناك).
كما تم توجيه الٍرأي العام بإيهامه أن تونس ستصبح من الدول المصدرة للطاقة الكهربائية المنتجة عبر الطاقات المتجددة و يتم التغافل أن خوصصة هذا القطاع سيجعل من المستثمرين الأجانب هم أصحاب اليد الطولى في عملية التصدير باعتبار حجم الاستثمارات الكبير المستوجب و الذي لن تقدر عليه على مستوى وطني سوى الشركة التونسية للكهرباء و الغاز التي تم تقليص دورها في هذا المجال. وهذه قائمة بالمشاركين في لزمات إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة و هيمنة الشركات الأجنبية:
علما وأن التصدير لن يكون ممكنا في ظل تعطل المخطط الشمسي التونسي وتأخر مشاريع الطاقات المتجددة في إطار نظامي التراخيص واللزمات وبالتالي فإن الربط الكهربائي سيقتصر على توريد الكهرباء لتونس وهذا ما تؤكده الدراسة التحضيرية للبنك العالمي عبر هذا الرسم البياني:
3- ختاما… سلطة تكرّس سياسات من سبقها:
تتخذ السلطة الحالية مشروعيتها من تقويض أسس سياسات من سبقها باعتبارها – على حد رأيها – سياسات فاشلة وأدت لمزيد تردي الأوضاع .ولكن المتمعن الجيد في سياساتها على مستوى الطاقة خصوصا الكهربائية يكتشف أن نفس الممارسات والسياسات يعاد تمريرها وبوتيرة أسرع مما سبق. عندما نطلع مثلا على المراسيم التي كان من المفترض تكون أداة لهدم ما سبق خصوصا ما استباح ثروات البلاد وساهم في تخريب المؤسسات العمومية، نلاحظ أنها كرسته ( أي ما سبق) وعززته وهي بذلك تتماهى مع من حكموا قبل 25 جويلية 2021.
ويمكن ذكر في هذا المجال التنقيحات التي طرأت سنة 2019 على قانون إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة الصادر سنة 2015 والتي مكّنت شركات الإنتاج الذاتي من بيع الكهرباء مباشرة للمستهلكين الصناعيين دون الحاجة لوساطة الستاغ في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأميم الكهرباء بتونس واستباحة الأراضي الفلاحية لتركيز هذه المشاريع. فعوض إلغائها وتعويضها بما يمكن من تعزيز المؤسسة العمومية في المجال وحماية الثروة الفلاحية من الاستغلال الصناعي، تصدر السلطة الحالية مرسوما بتاريخ 29 أكتوبر 2022 يعمم استغلال الأراضي الفلاحية لكافة أشكال استغلال الطاقات المتجددة وعدم الاقتصار على الإنتاج الذاتي وكذلك تحميل الستاغ مصاريف ربط وحدات الإنتاج الخاصة بالشبكة الكهربائية في تناقض تام مع ما ضمنه الفصل الثامن من قانون 2015 للطاقات المتجددة والذي كان يحمل مصاريف الربط للمستثمر الخاص.
ما ذكر هو أكبر مثال عن المسعى الحقيقي للسلطة في مجال الطاقة والتي كسابقاتها خاضعة لدوائر رأس المال العالمية وفي خدمة الاستثمارات الأجنبية الخاصة التي آخر اهتمامها مصلحة البلاد والعباد.
فيفري 2024