الشعبوية: أزمة الحكم، الآفاق والبدائل المطروحة
بقلم علي بنجدّو، ناشط سياسي يساري مستقل
ككل الأنظمة السياسية المغلقة التي تزعم الحكم باسم الشعب وتتّخذ شكلا شموليّا للحكم يطرح نفسه بديلا للإنقاذ الاجتماعي وحفظ ذاكرة الشعب أو الأمة وأمينا على الموروث القيمي وسيادة الشعب على حاضره مصيره، تستند الشعبوية في تونس إلى مجموعة من الأسس التي تطبع فعلها السياسي وتحدّد ملامحها الكبرى وآليات حكمها وتحكّمها. وقد كان انقلاب 25 جويلية 2021 وما تبعه من مراسيم وإجراءات رئاسية مسقطة وأحادية مسّت المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية مِحكًّا واقعيا لتبيّن طبيعة السلطة المنقلبة وتمظهراها السياسية. إجراءات ومراسيم غيّرت من شكل الحكم (ولم تمسّ البنية الطبقيّة للنظام القائم) وأنجزت على قِياسها انتخابات وتغيير للدستور وتحوير لفصوله واستبدال للسلط بوظائف بما يتماهى تماما مع نزع الصلاحيات والتأسيس لمنظومة استبداد شعبوي تغيب عنها وفيها أبسط مقوّمات الحداثة وقيم ومبادئ الديمقراطية البرجوازية والضمان الليبرالي المواطني الأدنى للحريات.
1. من مفارقات الشعبوية في تونس: الاستبداد يحكم باسم الشعب
في مقابل زعمها أنها تحكم باسم الشعب وتمثّل مصالحه وتدافع عن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية وتكرّس سيادته على ثروته مصيره، في مقابل هذا القاموس السياسي بكلّ مغالطاته ورصيده من حِيَل التّمثيل والادّعاء، تحافظ الشعبوية في منطوق فعلها على كل مقوّمات المنظومة السياسية الحاكمة القديمة من حيث استشراء الفساد والاحتكار ونماء ثروة الكمبرادور ورجال المال والأعمال والتحكّم في مسالك التوزيع فضلا عن اختناق الوضع المالي وضعف ميزانية الدولة وقلّة مواردها والرّفع التّدريجي للدّعم والتراجع غير المسبوق للخدمات الاجتماعية في الصحّة والتعليم والنقل.
كل هذه العناصر التي طبعت ولخّصت أزمة حكومات ما قبل انقلاب 25 جويلية ونزعت عنها غطاء الثورة وشعارها المركزي في “الشغل، الحرية والكرامة الوطنية”، هي ذاتها العناصر التي لازالت تطبع الوضع الآني في تونس اقتصادا وسياسة وخيارات للحكم والتعامل مع الشأن العام. بل أن الأمر زاد سوءً بتتالي خيبات الشعب التونسي وتنامي منسوب الضّجر والقلق واليأس. ولعل نِسب المشاركة الضعيفة في المحطّات الانتخابية الأخيرة (الانتخابات التشريعية وانتخابات المجالس المحلية) وقبلها الاستفتاء على الدستور، عكست حالة اليأس واللامبالاة من طقوس الممارسة السّياسية الشّعبوية الجديدة. فالشعبوية التي حوّلت هذا المنجز الانتخابي الضعيف إلى انتصارات في وجه “الساسة والسياسيّين القدم” وأعلنت نهاية الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات وتشكّلات مدنية، كانت بالنهاية هي ذاتها ضحيّة لمحاولات تصحير الساحة السياسية وترذيل الفعل السياسي، وهو ما يتجلّى الآن بشكل مرضيّ في تنامي قيمة الفردانية و”عقلية تدبير الرأس” و”أنا ومن بعدي الطوفان” وما شابه ذلك من علامات دالّة على انحصار الاهتمام بالشأن العام ودوافع الالتزام السياسي والمجتمعي والثقافي…
ولأنّ كل منظومة استبدادٍ وإن طال زمنها تحمل في داخلها وطبيعة فعلها أسباب وشروط نهايتها وأفولها وتصنع من محيط وضحايا حكمها خصوما، فإن الشعبويّة لن تكون استثناءً في التاريخ. فخدعة تمثيل الشعب بعناوين من قبيل “الشعب يريد…” أصبحت، بفعل عجز وإخفاقات الشعبويّة ذاتها عن الاستجابة للأدنى الاجتماعي المطلوب، شعارات ممجوجة وبمضمون هلامي أقرب إلى الوهم وطلب المستحيل، وهو ما انعكس تدريجيا على درجة تصديق وتقبّل أوسع قاعدة اجتماعية من طبقات وفئات الشّعب المتضرّرة ومن أولئك الذين انساقوا، إلى حينٍ (بوعي أو بسوء تقدير) في تصديق وعود 25 جويلية وما تبعها من إجراءات، وخاصّة تلك الأطراف والتشكيلات الحزبيّة السياسية التي قدرت/صدقت لحين أن انقلاب 25 جويلية يمثل تحقيقا أدنى للمهمات الوطنية والثورية والتصدي لقوى الثورة المضادة …
2. المعارضة الاجتماعية والسياسية في تونس: أيّة شروط وآفاقٍ لفعلها السياسي المستقل عن الشعبوية وحلفائها؟
وإن كانت موازين قوى السياسة وإدارة الشأن العام والتأثير في المعطيات ودينامية الأحداث راهنا تميل موضوعيا لفائدة الشعبوية بالنظر لتحكّمها بمراكز الحكم وتنويع آليات التّمويه والهيمنة ومحاصرة الحريات وحالة البهتة التي تحكم ما يمكن تسميته بـ”المزاج العام” وانحصار دائرة الفعل السياسي للمعارضة الراديكالية والديموقراطية عامة بسبب ترذيل العمل السياسي ومحاصرة الحريات والتضييق عليها، فإنّ كل هذه الاعتبارات لا تلغي إمكانا موضوعيا مُتاحا لتجاوز أزمة المعارضة والخروج من متاهة ردود الأفعال المحدودة زمنا وأثرا مباشرا.
ويمكن اختزال عناصر وشروط تجاوز أزمة المعارضة الراديكالية والديمقراطية عموما في ما يلي:
- تجاوز حالة التذرّر والتشتّت وحدود الفعل السياسي العرضي/المناسباتي بتأسيس جبهة معارضة اجتماعية/سياسية واسعة تؤلّف بين القوى الديمقراطية التقدمية والمدنية أحزابا واتجاهات ومنظمات وجمعيات تكون ديمقراطية في تمثيليّتها وشكل تسييرها الداخلي وتقديم المقترحات والبدائل على قاعدة القطع مع مسار الانقلاب والقوى الداعمة/الموالية له والمتقاطعة معه تصوّرا، برنامجا وبدائل.
- الالتقاء على قاعدة مهام سياسية مباشرة (ذات مضمون اجتماعي/طبقي ديمقراطي وطني مرحلي) تصدّيا لكل أشكال الاستبداد السياسي وللخيارات الاقتصادية-الاجتماعية الليبرالية واللاشعبية المرتبطة بمسار 25 جويلية وما سبقه من حكومات الالتفاف على المسار الثوري وذلك ضمن ثلاثة محاور مترابطة زمنيا وإجرائيّا يمكن ضبطها كالآتي:
- التصدي لكل أشكال التّضييق على الحريات العامة والفردية ومراجعة التشريعات المرتبطة بذلك من مراسيم وإجراءات استبدادية تقيّد هذه الحريات وتحاصرها مع ما يرتبط بذلك من ضمان لاستقلالية السلط وحياديّة السلطة التنفيذية ومن نضال حقوقي-مبدئي يستهدف المحاكمة العادلة وإطلاق سراح الموقوفين السياسيّين على خلفية قضايا سياسية ملفّقة وكيديّة.
- ضبط برنامج اقتصادي-اجتماعي مرحلي لمعالجة الأزمة القائمة تأخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعي المتردّي (تزايد معدلات الفقر والبطالة والارتفاع الجنوني للأسعار وندرة بعض المواد الأساسية والرّفع التدريجي للدعم وتردّي الخدمات الاجتماعية في قطاعات الصحة والتعليم والنقل…) وحالة الإنهاك الاقتصادي والمالي والعجز المتزايد للمؤسّسات العمومية وزيادة حجم المديونية وسوء التصرف في المال العمومي… بكل ما يستتبع ذلك ويقتضيه وجوبا من وضع خطة ملائمة وناجعة للتّقليل من تداعيات هذه الأزمة المركّبة واستباق لنتائجها الكارثيّة المتوقّعة.
- النضال من أجل سيادة وطنية فعليّة ضمن مقترح سيادي بديل لإجراءات محدّدة في مضامينها الاقتصادية والسياسية في كلّ ما له صِلة بمراجعة الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية الاستعمارية وسياسة التداين والاقتراض الخارجي وتعليق للديون.
- مواصلة النضال من أجل سنّ قانون يجرّم التّطبيع مع الكيان الصهيوني تماهيا مع الانتصار المبدئي لقضايا التحرر القومي والإنساني/الأممي وحقوق الإنسان الكونيّة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
تونس، في 20 فيفري 2024