بقلم عمار عمروسية
لم يترك الكيان الصهيوني في عدوانه الجاري على “غزة” جرما إلاّ وأقدم على اقترافه مستعملا كلّ الأسلحة بما فيها المحرّمّة دوليا.
فآلة التقتيل الإجراميّة تلحق الخراب والدّمار بجميع مقوّمات الحياة بالقطاع تحت ذريعة زائفة تتمثّل في مزاعم الدّفاع عن النّفس الذي أفضى إلى حرب إبادة جماعيّة غير مسبوقة سواء في الكلفة البشرية التّي تجاوزت 100 ألف بشر بين قتيل وجريح أو في الخسائر المادية المهولة التّي طالت المباني وكلّ البنى التحية.
وأمام الفشل الذريع لأسلحة الفتك والدّمار في تحقيق أهداف العدوان وتعدّد مآزق ونكسات جيش الإحتلال أمام صمود شعب غزّة وبسالة مقاومتها وسّع الكيان الصهيوني استعماله للتّجويع ضدّ القطاع المحاصر منذ 17 سنة.
فالماء والغذاء أصبحا سلاحا للتقتيل وكسر شوكة الصمود الشعبي.
ومعلوم أنّ هذا الاستخدام وحده يشكّل جريمة حرب بشعة ضدّ الإنسانية يمنعها القانون الدّولي وجميع المعاهدات والاتفاقيات المتعلّقة بالنزاعات والحروب، غير أنّ دولة الاحتلال الاستيطاني العنصري تمعن في الإستعمال الممنهج والواسع لهذا السلاح.
فالحصار محكم على “غزة” وأهلها، وعلى الأخصّ شمالها الذي تزايدت بين شيوخه وأطفاله حالات الموت التّي تجاوزت بين الأخيرين فقط 25 حالة وفاة معلنة من قبل المستشفيات.
فرائحة الموت جوعا في عصرنا هذا تفوح من بين خيام النازحين والكلّ يلهث وراء رغيف العيش الذي تصرّ سلطة الكيان على غلق كلّ منافذ المرور أمامه.
فكلّ المعابر البرّية موصدة ولا يمرّ منها إلاّ النزر القليل للقطاع مع الحرص الدائم على منع وصوله للشمال بالرغم من فظاعات مشاهد الجوع والجياع التي تتناقلها وسائل إعلام كثيرة دولية وعربية.
فإمعان العدوّ في إحكام الحصار على القطاع لم يتزحزح رغم تعالي الأصوات الشاجبة لهذا الصنيع وتزايد المطالبات الدولية بالإسراع في إدخال المساعدات الإنسانية درْءً لتوسّع الكارثة الإنسانيّة.
فدولة الاحتلال مثلما أسلف تدير عدوانها على المقاومة وشعبها بكلّ الأسلحة بما فيها التجويع الذي تعوّل عليه لتحقيق أهداف حربها.
فهو (التجويع) سلاح إضافي للقتل وهو وسيلة جديدة للضّغط على المقاومة وسلاحها وهو أداة إذلال معنوي مجتمعي من شأنه إنضاج الظروف الملائمة للتّهجير وبداية تخريب الالتفاف الشعبي حول المقاومة.
مما من شكٍّ أنّ سلاح التجويع فاقم الوضع المأساوي بالقطاع وزاد من تكلفة الخسائر البشريّة. إلّا أنه بعيد عن تحقيق أهدافه، ذلك أنْ صمود “الغزاويّين” وتمسّكهم بالأرض وعدالة قضيتهم أسهم في تأجيج الحراك العالمي المعادي للكيان وشريكه الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية التّي سارعت لاستجداء الكيان من أجل تخفيف الحصار وفتح المعابر الخ… تلك المناشدات التّي قوبلت بالرّفض الذي فتح مخيال الرئيس “بايدن” على الهرولة نحو إلقاء حزم مساعدات غذائية عن طريق الإنزال الجوّي الذي انقلب بفعل الوحشيّة الصهيونية إلى مصائد قتل إضافي راح ضحيّته وفق بلاغات وزارة الصحة الفلسطينية أكثر من 400 شهيد في مجازر متعدّدة بدواري “النابلسي” و“الكويتي“.
فجيش التقتيل الذي يعلم مسبقا زمان وأماكن تلك الإسقاطات حوّل بهمجيته طرود الغذاء ولقمة العيش إلى فظاعات إضافية اختلط فيها الدم بمشاهد إهانات عميقة للذّات البشرية وللرّوح المعنوية لشعب الصمود الذي لم تنكسر إرادته أمام قوّة السّلاح وبطش الاحتلال.
وأمام افتضاح الطّابع الاستعراضي الهوليودي لهذه الخطوة وتزايد العزلة التي لحقت جيش العدوان وشريكه الأساسي “أمريكا “نفض “بايدن” الغبار عن فكرة قديمة وأعاد لها الحياة معطيا أوامره للقوات المسلحة الأمريكية بالإشتراك مع دول غربية أخرى إلى تركيز ميناء عائم بشاطئ “غزّة” لإدخال المساعدات بعد تفتيشها في “قبرص“.
إنْ خطوة الإدارة الأمريكية الأخيرة تثير الشكوك حول أهدافها الحقيقية التي من الممكن جدّا، بعد الترحيب الصهيوني ودخول بعض دول التطبيع العربي وخصوصا “الإمارات” على خطّ تمويل إرساء هذا الميناء، أن تتحوّل إلى وسيلة غدر وتآمر يرتبط بمستقبل القطاع.
فالرصيف العائم قد يكون جسرا للتهجير ومرتكزا للتواجد الأمريكي الدائم الذي يفتح الطريق لإنعاش نوع من الانتداب الجديد المزيّن بوجوه فلسطينيّة معروفة بتاريخها الخياني الموغل في العمالة مثل “دحلان” المتربّص للانقضاض على لعب أقذر الأدوار وأحطّها.
إنّ التباكي الأمريكي /الغربي على الأوضاع الإنسانية بالقطاع ليس سوى تغطية على العدوان وأهواله ومحاولة بائسة لامتصاص غضب شعوب العالم قاطبة من التورّط الأمريكي المباشر في إدارة هذا العدوان.
والأهم من ذلك أنّ قضية الإغاثة الإنسانية دخلت من الباب الواسع إلى دائرة التوظيف السياسي وابتزاز المقاومة والضّغط عليها في المفاوضات المتعثّرة بهدف الحصول على مكاسب سياسية لم يقدر السلاح على تأمينها طوال الأشهر الخمس الماضية.
إنّ كلّ الملابسات وجميع مساعي الهرولة الأمريكية للاشتغال على هذه الواجهة الإنسانية ليست سوى تمديد في رخص التقتيل والإبادة التّي يتولّى البيت الأبيض تأمين استمرارها أوّلا بالتدفّق غير المسبوق لجميع أنواع أسلحة الفتك والدّمار عبر خطّ جوّي وبحري مستدام، وثانيا من خلال تأمين الغطاء المطلق السياسي والديبلوماسي للكيان.
إنّ آفة الجوع التي تخيّم على القطاع وارتفاع مخاطره الكارثية تمثلّ من جهة وصمة عار على مرتكبيها وداعميها من دول الغرب الإمبريالي ومن مجمل النظام الرسمي العربي والإسلامي، ومن جهة أخرى محفّزات إضافيّة للشعوب العربية وكافة شعوب العالم وقواه التقدميّة والثوريّة لتنشيط كافّة سبل الدّعم للمقاومة الفلسطينية بما يضمن الإيقاف الفوري لهذا العدوان الهمجي ورفع الحصار الجائر عن “غزّة” وعودة النازحين إلى أماكنهم والشروع المستعجل في إعادة الإعمار وإطلاق سراح ألوف الأسرى الفلسطينيين.