بقلم مرتضى العبيدي
“إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الشعب الفلسطيني” نيلسون مانديلا
تزامن تأسيس الأممية الشيوعية (1919 ـ 1943) غداة انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى مع تسارع نسق المخططات التي كانت القوى الامبريالية تحيكها لبسط سيطرتها على مختلف مناطق العالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية. فكانت اتفاقية سايكس ـ بيكو سنة 1916 التي ستكشف فحواها الدولة السوفياتية الوليدة وتدعو الشعوب إلى التصدّي لها، ووعد بلفور سنة 1917 الذي سيفتح أبواب فلسطين على مصراعيها أمام موجات الهجرة اليهودية ويعزّز نشاط الحركة الصهيونية فيها، ممّا جعل الأمميّة الناشئة تواجه نظريّا وسياسيّا إحدى أعقد قضايا العصر.
الأممية الشيوعية الوليدة وقضية فلسطين
وجب التذكير منذ البداية أن الحركة العمّالية الثورية قد وصمت الحركة الصهيونية منذ ظهورها في نهاية القرن التاسع عشر، إذ شجبها قادتها مثل بيبل ولينين وكاوتسكي ووصفوها بأنها حركة وعقيدة رجعيّة متطرّفة في خدمة البرجوازية اليهوديّة المتحالفة مع الإمبريالية العالمية. وورثت الأممية الشيوعية هذا الموقف واستمرت في التّنديد بالمشروع الصهيوني. وعندما شرع الإمبرياليون في تنظيم موجات الهجرة الجماعية لليهود إلى فلسطين، شجبت الأمميّة هذه السياسة التي اعتبرتها “فكرة طوباوية وبرجوازية صغيرة ورجعية تسعى إلى صرف انتباه البروليتاريين من ذوي الدّيانة اليهودية عن الصّراع الطبقي”. وأعلنت اللجنة التنفيذية للأممية دعمها لنضال الجماهير العربية في فلسطين ضدّ المعسكر الامبريالي والصهيوني.
وفي نفس الإطار، شجبت الدولة السوفيتية الفتيّة، بعد شهور قليلة من ولادتها، مكائد الصهاينة وحُماتهم الامبرياليين ضدّ فلسطين. ففي ديسمبر 1919، أصدرت مفوّضية الشعب للشؤون القومية، نيابة عن يهود روسيا، بيانًا جاء فيه أن “الصهاينة يحاولون طرد العرب من فلسطين لإقامة دولة يهودية هناك. إن الجماهير اليهوديّة الكادحة لجمهورية روسيا الاشتراكية يدافعون عن وطنهم الاشتراكي على الجبهة إلى جانب عمال وفلاحي روسيا ضدّ الدول الإمبريالية في الوفاق وعملائها… لسنا بحاجة إلى دولة أخرى وليس لدينا أيّ حق قومي على فلسطين. نحن ندرك أن هذه الحقوق الوطنية هي مِلك للجماهير العربية والبدويّة الكادحة في فلسطين”.
ففي فلسطين، وجدت الأمميّة الشيوعية نفسها في مواجهة قضية استعمارية من نوع خاص، حيث لم تكن المسألة في الأرض الفلسطينية تتعلق بالمواجهة بين قوّتين: محتل إمبريالي، في هذه الحالة بريطانيا العظمى، وقوّة تحرير وطنية، أي الشعب الفلسطيني، لكن هنالك تدخل قوّة ثالثة: جحافل الحركة الصهيونية المتوحّشة التي انطلقت ضدّ فلسطين وبدعمٍ من كل القوى الإمبريالية.
وكان على الأممية الشيوعية الناشئة أن تتّخذ موقفا ليس فقط من هذه المسألة المعقّدة، ولكن كان عليها كذلك أن تدعم بشكل لا لُبس فيه فرعها الفلسطيني المولود حديثا: الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهو أقدم الأحزاب الشيوعية العربية، إذ تأسّس عام 1919. وهذا التأسيس المبكّر يفسّر وجود عدد كبير من المهاجرين اليهود من أوروبا والذين استقرّوا في فلسطين في صفوفه. وسوف يشهد الحزب مراحل مختلفة من التطور وسيعاني من انقسامات عدّة، حيث كانت مهمّة الشيوعيين اليهود عسيرة للغاية من زاوية نظر التناقض الرئيسي، إذ كان عليهم محاربة الصهيونية وهي التي ساهمت في جلبهم وتوطينهم في هذه الأرض التي كانت بصدد الاستعمار. وعندما أشارت الأممية الشيوعية بضرورة تعريب الحزب، أي دمج الفلسطينيّين في مختلف المستويات، غادره كثير من اليهود.
الأممية الشيوعية وانتفاضات الشعب الفلسطيني
إن الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي احتفل منذ خمس سنوات بالذكرى المئوية لتأسيسه، لن يعمل فقط كفرعٍ للأممية الشيوعية في فلسطين، بل وكذلك للربط بين هذه الأخيرة والدول العربية المجاورة، إذ لعب الشيوعيون الفلسطينيون دورًا حاسمًا في تأسيس الأحزاب الشيوعية في مصر وسوريا والعراق في بداية العشرينات من القرن الماضي. وللتذكير، فإنّ المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية (1920) تناول القضية الفلسطينية بطريقة واضحة ومعمّقة. إذ احتلّت فلسطين مكانة بارزة ضمن الأطروحات المتعلّقة بالمسألة الوطنية والاستعمارية التي تبنّاها المؤتمر. وشجب النص بشكلٍ قاطع المشروع الإمبريالي الصهيوني الذي كان بصدد التنفيذ في قلب العالم العربي. وسوف ينعكس هذا في الدّعم الذي ستقدّمه الأممية الشيوعية ليس فقط للحزب الشيوعي الناشئ، ولكن لكل النضالات التي يخوضها الشعب الفلسطيني ضدّ المحتل البريطاني أو ضدّ موجات الهجرة الجماعية لليهود التي نظّمتها القوى الإمبريالية.
وقد تجسّد ذلك مثلا في الموقف من الانتفاضة العربية لعام 1929 التي دعّمتها الأممية الشيوعية بوضوح. ويثبت ذلك المقرّر الذي نشرته الأمانة السياسية للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية بشأن حركة الانتفاضة العربية بتاريخ 16 أكتوبر 1929. كانت الانتفاضة في فلسطين في مواجهة الاحتلال البريطاني من جهة وعمليات الانتزاع القسري لملكية الفلّاحين العرب لأراضيهم لصالح الصهاينة الذين حلّوا حديثًا بفلسطين. وكان يُنظر إلى الانتفاضة الفلسطينية على أنها بداية لموجة كبيرة من الحركات الثورية لتحرير الدول العربية، وبالتالي يجب دعمها، خاصة أنها سرعان ما اكتسبت زخمًا وبدأت في النّمو وانتشرت إلى دول الجوار. على الرغم من أنها كانت في الأساس حركة فلاحية، وكان لديها في مرحلتها الأولى قيادة رجعيّة إلى حدٍّ ما، إلا أن طابعها المناهض للإمبريالية كان كافياً لكي تدعمها الأممية الشيوعية، خاصة أنها كانت حركة جماهيرية.
كما تجسّد الدعم من خلال مساعدة الحزب الشيوعي الفلسطيني نظريًا وسياسيًا ليكون قادرًا على المشاركة بنشاط في الانتفاضة العربية إلى جانب القوى الأخرى، دون إغفال مصالح الطبقة العاملة. وتوضح المقاطع التالية، المأخوذة من مقرّر 16 أكتوبر 1929، مدى اهتمام قيادة الأممية الشيوعية بما يحدث في فلسطين وبقية العالم العربي: “يجب أن يتعلّم الحزب الشيوعي الفلسطيني، وكذلك فروع الأممية الشيوعية في البلدان العربية الأخرى، دروس الانتفاضة. إن المهمة الأكثر إلحاحًا للحزب هي بذل جهود جريئة وحيوية لتعريب الحزب من أعلى إلى أسفل. وفي الوقت نفسه، يجب عليه أن يبذل قصارى جهده لإنشاء نقابات عربية أو مختلطة لليهود والعرب، والتّواجد في تلك الموجودة وتوسيعها…
يجب على الحزب أن يقضي في صفوفه بأيّ ثمن على أيّ تردّد أو سلبية فيما يتعلق بقضية الفلاحين. عليه أن يُبلور برنامجا زراعيّا يأخذ في الاعتبار المطالب الخصوصية للفلاحين والبدو. يجب على الحزب أن يواصل عمله بين العمال اليهود المنظمين في النقابات الصهيونية، وكذلك بين العمال غير المنتظمين في النقابات. إن إدانة الصهيونية، ولا سيما جناحها اليساري، كوكالة في خدمة الإمبريالية، تظل كما كانت في الماضي إحدى المهام الأساسية، ويجب أن نستخدم دروس الحركة لإثبات ذلك.
لا يمكن تنفيذ هذه المهام إلا بشرط النضال بقوة وجرأة ضد الانحراف اليميني في الحزب المرشح للتعزيز تحت ضغط الإرهاب الأبيض وتأثير الهزيمة المؤقتة للانتفاضة. يتجلى الانحراف اليميني في الحزب الشيوعي الفلسطيني في سوء تقدير الإمكانات الثورية، والمقاومة العلنية أو الكامنة لمهمة تعريب الحزب، والتشاؤم والسلبية تجاه العمل بين الجماهير العربية، والقدرية والسلبية تجاه موضوع الفلاحين، وعدم فهم الدور الثانوي للرفاق اليهود، والمبالغة في تقدير حجم تأثير البرجوازية الرجعية، وكبار ملاك الأراضي ورجال الدين على الجماهير العربية، والموقف المهادن إزاء الأخطاء الانتهازية، وعدم فهم الحاجة إلى نقد ذاتي قوي وشجاع للأخطاء المرتكبة، والميل للهجرة دون موافقة اللجنة المركزية، وهو هروب من المسؤولية، والموقف السلبي من شعار “من أجل حكومة العمال والفلاحين”.
المشروع الصهيوني والبعد الأممي للقضية الفلسطينية
إن التطورات اللاحقة والتي أدّت إلى قيام الكيان الصهيوني كقاعدة متقدّمة للامبريالية في المنطقة تجعل من القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيّين وحدهم بل قضية كل الأحرار في العالم أو كما قال الشهيد غسان كنفاني “قضيّة كل ثائر”؛ إذ أن خصوصية القضية تكمن في طبيعة هذا الكيان كـجزءٍ عضوي من الامبريالية وكقاعدة أساسية للعدوان ضدّ شعوب المنطقة، وخاصة الأقطار العربية، لضمان هيمنة الإمبريالية عليها وحرمان شعوبها من حقّهم في تقرير المصير. وهو ما يعني أن تحرير فلسطين، أي تحريرها من الصهيونية كأهمّ أداة للإمبريالية في المنطقة، ليس مَنوطا بالفلسطينيّين وحدهم بل يقع على عاتق شعوب المنطقة كافة. لذلك فإن نضال هذه الشعوب ضدّ الصهيونية هو جزءٌ من نضالها من أجل التحرّر من الإمبريالية. فلا تحرّر لهذه الأوطان دون دحر الصهيونية.
لذا نرى القوى الامبريالية الساعية الى تأبيد سيطرتها على مقدّرات البلاد العربية بشتّى الوسائل والأدوات وعلى رأسها الكيان الصهيوني ذاته حريصة كل الحرص على حماية هذا الجسم الغريب بل هي تعمل ما في وسعها على جعل عملائها في المنطقة يخضعون لمشيئتها في التطبيع معه والتعامل معه ليس كجسم غريب بل كأحد المكوّنات الطبيعية لجغرافيا المنطقة وتاريخها.
إن المشروع الصهيوني، بحكم طبيعته، مشروع عنصريّ نقيض للوجود والهوية الفلسطينيّيْن. وهو ما يجعل موقف شعوب العالم من القضية الفلسطينية مختلف جوهريا عن موقفها من سائر قضايا الشعوب المضطهدة التي، وإن كانت تعاني من الاستبداد والقهر، فهي لا تتعرّض للاستئصال من أرضها وضرب هويتها. وهو ما تشهد به جميع الحروب العدوانية التي نفّذتها آلة الحرب الصهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني وبقية شعوب المنطقة وما تؤكّده حرب الإبادة الجماعية التي يشهدها كامل التراب الفلسطيني اليوم منذ انطلاق طوفان الأقصى. وهو ما يفسّر كذلك زخم حركة الإسناد للقضية الذي عبّرت عليه ومازالت شعوب العالم قاطبة رغم ما بذلته وتبذله آلة الدّعاية الصهيونية بترويجها لسرديّة المظلوميّة الكاذبة التي عاشت عليها منذ عقود.