حاوره شريف خرايفي
مازال موضوع استرجاع أموال التهرّب الضريبي والأموال المنهوبة يثير جدلا كبيرا بالنّظر للفشل الذّريع في طيّ هذه الصفحة التي مثّلت أحد أوجه الاستبداد والفساد طيلة العقود الماضية. وقد تطوّر هذا الجدل في السنوات الأخيرة ضمن عهدة حكم الرئيس قيس سعيد الذي أصبح موضوع الصّلح الجزائي “خبزه اليومي” تقريبا؛ فمن تصريحات قديمة عندما كان يقدّم نفسه كخبير في القانون الدّستوري، فأوامر ومراسيم منذ 2020، لينتهي به المطاف كقانون صادق عليه برلمان منظومة 25 جويلية بالإجماع.
في هذا الصّدد وحول هذا الموضوع وما أثاره من سجال، تحاور جريدة “صوت الشعب” القاضي أحمد صواب القاضي ورئيس المحكمة الإدارية سابقا:
أوّلا، ما حجم الأموال الموجب استرجاعها لفائدة الدولة التونسية من جيوب المتهربين؟
بداية وتاريخيا فإنّ قيس سعيد من بين الراكبين على الثورة. لقد انطلقت مسيرته من القصبة 1 و2 بإبهاره للرأي العام عبر طريقة تحدّثه وما روّج له آنذاك من أفكار معيّنة منها رؤيته للمجلس التأسيسي والنظام الانتخابي والشركات الأهلية والبناء القاعدي والصلح الجزائي الذي سوّق له بدرجة أولى وأعاد طرحه عندما أصبح رئيسا للجمهورية. لقد انطلق قيس في طرحه لموضوع الصلح الجزائي من فرضيات خاطئة، وهما اثنتان بالأساس، الفرضية الأولى تتعلّق بالتقديرات المالية، قرابة 13.5 مليار دينار لما قبل الثورة فقط إضافة للتقديرات المالية إلى غاية صدور المرسوم البالغة 20 مليار دينارا. والثانية المتعلّقة بأعداد رجال الأعمال المعنيّين بذلك والمقدّر بـ 460 رجل أعمال، وهنا أؤكّد أنّ هذه الأرقام والمعطيات غير صحيحة لأنّ الجميع يبني معطياته بناءً على الأرقام والمعطيات المنشورة في التقرير الصادر عن لجنة الراحل عبد الفتاح عمر وقد ثبت أنّها غير صحيحة. أمّا عن الأموال المسترجعة فلم تتمكّن اللجنة الأولى والتي عملت لمدة سنة إثر صدور المرسوم إلاّ من جمع 26.9 مليون دينار فقط، وهذا بعيد جدّا عن الآمال المعلّقة على عاتق “الصّلح الجزائي”.
منذ الثورة وإلى اليوم لم تنجح أيّ حكومة في معالجة ملّف الصلح الجزائي. هل يعود ذلك إلى الثغرات القانونية أو بسبب تخبّط المنظومة الحاكمة؟
إنّ ملفّ الصلح الجزائي كفكرة لست ضدّها. فهي تعتبر إحدى تقنيّات العدالة الانتقالية. وقد حدثت تجربة أولى إثر الثورة والتي كنت جزء منها لكنها لم تنجح، ثمّ تمّ إحداث هيئة الحقيقة والكرامة، والتي تعتبر كارثة، ولم تنجح بسبب التوظيف السياسي، وخلال فترة حكم نداء تونس تمّ إحداث قانون المصالحة (جويلية 2015) وحينها قدّمت استقالتي من لجنة المصادرة بسبب ذلك وبدوره فشل وتمّ إسقاط الجانب المتعلّق بالملفات الاقتصادية إثر الطّعن فيه. وقد استثمر قيس سعيد هذا الفشل وقاد الملفّ بطريقة فردية مطلقة، وبدوره قد فشل في تحقيق نتائج إيجابية، فمثلا الآجال التي حدّدتها اللجنة التي أحدثها سعيد (ثلاثة آجال في الحصول على الوثائق وإنهاء الاختبارات والبتّ في الملفات) غير واقعية بتاتا.
هل تعتبرون ملف الصلح الجزائي ملفا قضائيا وقانونيا أم ملف للتوظيف السياسي ؟
إنّ مسار ومنطلق الصلح الجزائي برنامج سياسي بامتياز. وقد استغلّه قيس سعيد كبرنامج سياسي للوصول إلى الحكم، ثمّ انتبه إلى ضرورة إحداث ذراع جديد له فأحدث الشركات الأهلية عبر الفصل 30 من مرسوم الصّلح الجزائي.
هل تعتبرون القانون الجديد المتعلق بالصلح الجزائي والذي تم تمريره إلى البرلمان تطوير له أم تراجع عن النسخة السابقة؟
إن ما حدث محاولة لإصلاحه بغاية نجاعته ونجاحه، وبالنسبة لي لا أرى أيّ نجاح يمكن أن يحدثه، بل إنّ إمكانية ذلك تقتصر فقط عبر توظيف القضاء، وأذكّر هنا بتصريح قيس سعيد خلال جوان 2023 “من يريد تجنّب السجن عليه بالدفع” وخلال سبتمبر 2023 “من يريد مغادرة السجن عليه الدفع إلى الدولة” ولا يمكن وصف ذلك إلاّ بابتزاز لأغراض سياسية، وما فضح ذلك ثلاثة مؤشّرات: أوّلا لم تعد اللجنة هي من تقرّر بل مجلس الأمن القومي وتحوّل دورها فقط إلى تقديم مقترحات لا غير، ثانيا جميع الهياكل مقيدة بآجال إلاّ مجلس الأمن القومي ولا يمكن الطعن في قراراته أمام أيّة هيئة قضائية، ثالثا تمّ إضافة أنّ الأموال التي سيتمّ جمعها ستتحوّل إلى مشاريع وطنية و20 بالمائة منها ستتوجّه إلى الشركات الأهلية فقط، وهنا أتساءل عن هذه الشركات التي تم إحداثها أين هي وماذا حقّقت فعلا؟
أين دور المجلس الأعلى للقضاء في ملف الصلح الجزائي؟
أولا هناك مجلس قضائي دائم منتخب وشرعي، تمّ حلّه قولا من جانب وزارة الداخلية بتاريخ 5 و6 فيفري 2022 قبل نشره في القرار في الرائد الرسمي الذي لم يصدر فعليا إلاّ يوم 12 فيفري 2022 وذلك بسبب ردّه وقراءته للمشروع الأول للصلح الجزائي الذي تمّت إحالته للمجلس خلال شهر جانفي 2022. وهناك مجلس أحدثه قيس سعيد والذي أصبح كلّ مكون له (القضائي والمالي والعدلي) يعقد اجتماعاته بصفة فردية وهذه سياسية من أجل التفريق. والقضاء العدلي هو المعني بملف الصلح الجزائي لكن اليوم هذا القضاء في أضعف وأتعس حالاته فتركيبة هذا المجلس 4 بالصفة و3 من المتقاعدين، وبعد تغيير صفة البعض والتشفّي والتنكيل في آخرين وإحالة أعضاء آخرين على التقاعد، أصبحت تقتصر تركيبته الحالية متكوّنة فقط على عضوين إثنين وما يحدث حقيقة غير منطقي.
هل تعتبر مسار الصلح الجزائي يستهدف في العمق فلسفة المصالحة والمسائلة وجبر الضرر؟
لقد أوضحت لك منذ البداية انطلاقة وتنظيم ومقاصد الصلح الجزائي، كما أوضحت أن قيس سعيد استغل فقط الفكرة التي تحوّلت إلى مشروع فاشي ووظفها لأغراض سياسية ضّيقة عبر الترهيب والتضييق والسجن.
وفقا لما شرحت، هل يمكن اعتبار أنّ هذا المشروع يمهّد الطريق للفساد السياسي؟
صحيح، بل ما سيحدث أفظع ممّا حصل سابقا بسبب تتالي الفشل وعدم الدراية بالواقع، بل يمكنني القول وبناء على مؤشّرات حدثت في الفترة الأخيرة أنّ هذه المنظومة ستشهد انفجارا من الداخل. وبالعودة إلى النص المتعلّق بقانون الصلح الجزائي، فكيف يمكن احترامه والحال أنّ واضعه لم يحترمه؟ فأوّلا لم يتمّ احترام إجراءات سدّ شغور في منصب رئيس اللجنة، ثانيا لم يتمّ نشر نظامه الداخلي في الرائد الرسمي وفقا للآجال (في ظرف 15 يوما)، ثالثا لم يتمّ نشر قيمة المنحة المالية للأعضاء. بل إنّ الأخطر هي السّلطة التقريرية التي أصبحت مجلس الأمن القومي وليس اللّجنة.
يحظى مجلس الأمن القومي بأهمية كبرى، ما تعليقك على ذلك؟
مجلس الأمني القومي هو صاحب السّلطة الفعلية في هذا المشروع (الصّلح الجزائي)، وله الكلمة الفصل بما أنّه له وحده سلطة التّقدير والتقرير. إنّ جعل السلطة الحقيقية بيد كلّ من مجلس الأمن القومي والمكلّف بنزاعات الدّولة (له سلطة التنفيذ) تجعل اللجنة المشرفة على الصّلح الجزائي مجرّد ديكورا وواجهة شكليّة لا غير. فمن خلال الصلاحيات الموكولة لها، وهي صلاحيات استشارية فقط، تجعل منها غير محدّدة بقانون أو بآجال.
الشّركات الأهلية كما الصلح الجزائي، من الملفات المركزية في بروباغندا قيس سعيد، سياسيّا، وخاصة انتخابيا في المدّة الأخيرة. ما علاقة هذه بذاك؟ وما علاقتهما معًا بمشروع البناء القاعدي خاصة؟
قيس سعيد يريد أن يحكم البلاد عبر نظام استبدادي وديكتاتوري، مثله مثل كلّ الطّغاة الذين حكموا في فترات معيّنة في التاريخ. فقد وضع تحت تصرّفه كل السلطات وخاصة القوى الصّلبة مضاف إليها القضاء، ثمّ توجّه لاستهداف و”تفتيق” أدوات السّلط المضادّة (الأجسام الوسيطة)، من أحزاب وجمعيات ومنظّمات. وفي المقابل، هذا المشروع يستوجب، لكي يكتمل، إلى أذرع قاعدية على غرار المفسّرين وتكوين أجسام شكليّة أخرى من ذلك مشروع الصلح الجزائي، كذراع مالي، الذي ووفقا لسعيد يتطلّب ذراعا اقتصاديّا واجتماعيّا، وهو الشركات الأهلية.
الكلمة الأخيرة لكم.
تونس منذ استقلالها شهدت عدّة مراحل سياسية، فمن بورقيبة الذي أسّس للدولة الحديثة ولكنه كان استبداديا ثمّ بن علي الذي كان ابنا غير شرعيّا لبورقيبة وصولا إلى حراك الثورة الذي قد انطلق منذ 13 سنة. وقد شهدت تونس العشرية السّوداء التي كانت كارثيّة على المستوى القضائي والاقتصادي والاجتماعي ولكن، رغم ذلك فقد حافظنا على مكتسبات الحرية. ولكن ومنذ صعود قيس سعيد نُسِفت جميع هذه المكاسب التي تمّ تحقيقها منذ الاستقلال، فعلى المستوى السياسي اعتبر قيس سعيد الابن غير شرعي للنهضة بل هو على يمينها. وهنا أتساءل كيف ليساري تقدّمي أن يساند مثل هذا المشروع خاصة أنّه ومنذ تنفيذ الانقلاب قد أصبح قيس سعيد ديكتاتورا ومستبدّا بالمفهوم والقانون الرّوماني عبر “الاستحواذ على كلّ السلطات” وتدجين آليات الحكم ونحن نشهد بالفعل بوادر لصعود الفاشية، وهناك مؤشّرات عدّة وملموسة تؤكّد ذلك. لكنّ كلّ هذا سيسير إلى الاضمحلال.
وفي المقابل أعتقد أنّ مقاومة هذا المسار الاستبدادي مستمرّة أيضا من قبل عديد أحزاب المعارضة والمنظمات الوطنيّة وعديد الشخصيّات والأفراد، من نقابيين وإعلاميين ومدوّنين وقادة رأي الذين لهم زاد وتجربة كبيرة وطويلة في التصدّي لكلّ أنواع الدكترة ولهم أيضا أفكارا ومواقف مناضلة. وفي المقابل تراجع حجم المساندين لقيس سعيّد، سواء من الحزام الانتخابي أو النّيابي.