بقلم عمر حفيّظ
تمتدّ تجربة أولاد أحمد (1955-2016) الشّعريّة على ما يزيد عن ثلاثة عقود. فأوّل نصوصه هو “نشيد الأيّام الستّة” الذي كتبه سنة 1984 بعد انتفاضة الخبز الدّامية التي سقط فيها شهداء كثيرون دفاعا عن حقّهم في الحياة وقد عمّدوا خبز التّونسيّين خلال تلك الانتفاضة بدمائهم. والنّشيد كان يُهرَّب ويُتداول سرّا لأنّه مصَادَرٌ. فهو، في نظر النّظام، آنذاك، منشور سياسيّ سريّ.
وهذا يعني أنّ أولاد أحمد قد اختار، منذ البدء، العبور المحفوف بالمخاطر(عبور التّاكمُرت(1)).
وآخرُ ما كتب (4 أفريل2016) وهو في المستشفى العسكريِّ، تدوينة على صفحته في الفايسبوك، يقول فيها:
-1-
تونسُ
سلّمتُ في الدّنيا…
وقلتُ: أكونُها
شعرا
ونثرا
ناقدا
ومبشّرا
… طولَ الفصولِ الأربعه
– 2 –
أنثى
……………….
ليس… لي قبرٌ
في الما-بعد
في الأخرى
سوى هذي الحروف الأربعه
تونسُ.
وبين نصّ “النّشيد” و”التّدوينة الأخيرة” أو ما بعدها تشكّلت تجربةُ محمّد الصّغيّر أولاد أحمد. وهي تجربة محكومةٌ، في أغلب نماذجها، بكتابة الحدَثيّ نسبة إلى الحدث (l’événement). ولعلّ كتابةَ الحَدَثِ من أعسر أنواع الكتابات. ويتأتّى عسرها من جهتين:
أوّلا، من جهة الحدث وطبيعته في حدّ ذاتها. فهو طارئ وغير متوقّع، في أحيان كثيرة، إذ هو يكسر سلسلة إيقاع رتيب متكرّر تعوّدت عليه الذّوات. وهذا ما يجعله مفاجئا عسيرا على التّقييد. فقوّة حدوثه أو حضوره تجعله عصيّا على أن يُسجن داخل الخطاب. وحتّى إذا كان الحدث متوقّعا أو منتظرا في كلّيته، فإنّ سيرورته لا تخلو من المفاجئ في كثير من تفاصيلها. وغالبا ما يكون الحدث مثقلا بحرارة اللّحظة الآن-وهنا. وقوّةُ تلك اللّحظةِ أو عنفُها (فرحا وانتشاءً أو حزنا وألما) يربكان الذّات ويضعانها في سياق إكراهات متعدّدة لأنّ مقامَ الانفعال بالحدث غيرُ مقام التّعبير عنه.
ثانيا، من جهة ما تقتضيه الكتابة من تمثّل للحدث وإعادة بناء له بانفعال مغاير للانفعال المتخلّق لحظة الحدث. والكتابة، في حدّ ذاتها، أثرٌ (trace) وحدث (évènement). فنحن لا نكتبُ الحدثَ، بل لا نستطيع أن نكتب الحدثَ كما هو لأسباب متعدّدة. أهمّها أنّ اللّغة لا تسعفنا بذلك، ولا تتّسع لانفعالاتنا كلّها ولحالاتنا اللاّنهائيّة على اختلافها. ثمّ إنّ الكتابةَ حدثٌ ذاتيّ مخترَقٌ بمتعدِّدٍ يعسر تحديدُه وقوّةُ تأثيره فينا. فكتابة الحدث مخترَقَةٌ، مثلا، بالايديولوجيّ والسّياسيّ والتّاريخيّ والثّقافيّ والأسطوريّ… وهذا من شأنه أن يغيّر الحدث أو أن يكيّفه على الأقلّ. فنحن، في كلّ الحالات، نكتب الأثر ولا نكتب الحدث.
لذلك يمكن أن نقول إنّ اختيار أولاد أحمد كتابةَ الأثرِ-الحدثِ إنّما هو اختيار رشّح صاحبه إلى أن يشكّل لنفسه “هويّة كتابيّة” تتجاذبها، في أغلب الأحيان، قوًى وجماليّاتٌ مؤتلفة مختلفة في آن معا: قوّةُ وقْعِ الحدثِ في حينه أي زمن وقوعه، وقوّة الانفعال بما يحدثُ، وقوّة اليوميِّ وسلطته. أمّا الجماليّات، فمتعدّدةُ الوجوه كالاستعارات القريبة أو المفاجئة، أو إدراج المتداول من الخطابات في البناء، أو التّوقيع الغنائيّ بتكرار الدّوال ذاتها أو بالتّراكيب عينها، أو غير ذلك من الأساليب.
ورهانُ محمّد الصغيّر رهانٌ مضادٌّ للذّائقة التّقليديّة. فاليوميّ (le quotidien)، مثلا، في التّصوّر العاميّ–التّقليديّ له خال من المعنى ولا قيمة لما يتخلّله ويحدث فيه. والحال أنّ اليوميّ هو مجمع المعاني. ولكنّ معانيه عصيّة على أن تُقتَنَصَ وتُدرَك من قبل الجميع. هذا، ما يُنبّهنا إليه موريس بلانشو(2)، على الأقلّ.
وقد اخترنا أن نقصر اهتمامنا على نصوص “قصائد الثّورة التّونسيّة” (قصيدة الفراشة، القصيدة المغربيّة، تحيّة إلى شباب القصبة، تونسيّ دفعة واحدة أو لا أكون، توقّعات، حالات الطّريق، أسئلة مجرّد أسئلة، رسالة أخيرة إلى نساء تونس، الملاكم، مصعد باتّجاه الهاوية، فيزياء، جواب الشّرط) وهي من كتاب “حالات الطّريق”(3).
ففي أغلب هذه النّصوص يشير أولاد أحمد إلى تأريخ الكتابة وسياقاتها. فـــــ”قصيدة الفراشة” مثلا، مصدّرة بتأطير يحيل على المرجعيّ ( الثلاثاء28 ديسمبر/ مستشفى الحروق البليغة/ رئيس الجمهوريّة التّونسيّة يزور الشّاب محمّد البوعزيزي الذي أضرم النّار في جسده، في مدينة سيدي بوزيد احتجاجا على البطالة) والإحالة على المرجعيّ تشدّ الكتابة إلى الحدث. لكن رغم هذا الحضور المهيمن للمرجعيّ فإنّ القصيدة تحاول أن تبتدع لنفسها نسقا استعاريّا يذكّر بالشّابي، وهو يحذّر من النّار تحت الرّماد، ولعلّه يقترب كذلك من أسطورة الفينيق:
أنا تونس الوسطى
أعيش على القناعة والمطر
أنا تونس الكبرى قدر
أنا تونس الأخرى
رماد مبتكَر
يُرجّع السّطر الأخير (رماد مبتكَر) ما كان قد قاله الشّابي محذّرا طغاة العالم: (حذار فَتَحْتَ الرّمادِ اللّهيبُ/ ومن يبذر الشّوك يجن الجراح) والرّماد المبتكر هو رماد الفينيق يحترق ليولد من جديد. والاستعارةُ المتواترةُ باستمرار في الشّعر الملتزم أو المبشّر بالثّورة والممثّلةُ لكلّ ثورة تقريبا هي استعارةُ الفينيق الذي يحترق في عشّه ويولد من رماده طائر آخر. وكذا الأوطان. فهي لا تولد من جديد أو هي لا تليق بإنسانيّة الإنسان وأهلها إلا بعد أن تصهرها
أو تجلوها نار الثّورة التي لم يكفّ أولاد أحمد يوما عن التّبشير بها.
وربّما عُدّت هذه الخصيصة سمة ثابتة في كتاباته. وما من شكّ في أنّ صور التّبشير بالثّورة أو استشعارها مختلفة من قصيدة إلى أخرى أو متفاوتة في درجات التّخييل. ولكنّها ثابتة. ففي نشيد الأيّام الستّة مثلا تتعدّد تلك الصّور وتبدو متفاوتة في التّخييل ومراجعه. ويمكن أن نقف على معنى التّفاوت من خلال الصّورتين التّاليتين:
هذا نهارك يا دمي
فاحضن سنابلك التي شقّت سنين الطّين. لا
تترك مناجلهم تحشّ رغيفنا
ورغيف من باعت حليّ زواجها لتكون أحمر
واصرخ بأهلك في القبيلة عاليا:
يا أيّها الإخوان لسنا إخوة(4).
أمّا الصّورة الثانية فهي:
يا ابن خلدون المدينة أضيق من خطاك
ولكم مررت ببرنسك الحديد… فساءني زمني
فاخرج من الوثن الجديد
واكتب إلى الوثن المقابل ما يليق بحجمه
قل ما تريد:
هذا حصانك واقف والكفّ من زمن ترحّب الغريب
قل ما تريد
فلنا المدى
وله الصّديد(5).
تبدو درجةُ التّخييل، في الصّورة الأولى، أرفعَ وأعلى منها في الثّانية. فشعريّة الصّورة الأولى متولّدة من تقاطعات متعدّدة: من هيمنة ضمير المتكلّم الذي جرّد من ذاته ذاتا أخرى يخاطبها في ضرب من الغنائيّة الحواريّة، ومن تداخلٍ بين معاني الحضن والضمّ والقطع والفصل، ومن رمزيّة اللّون والانتماء وإمكان ربطهما بالمقدّس الإنسانيّ (التّضحية أو الشّهادة من أجل وطن وشعب: هذا نهارك يا دمي) وبتحويل الحدث إلى وعد مترقَّبٍ، واشتقاق الحياة من الموت. فحبّ الوطن باب من أبواب الاستشهاد أي الموت ولكنّ الأنا-الشّاعر يحوّل موتَه حياةً.
أمّا الصّورة الثّانية، فوثيقة الصّلة بالمرجعيّ-المكانيّ والتّاريخيّ. وهي قائمة على الوصف والمقابلة بين ابن خلدون وبورقيبة وما يمكن أن يرشح من اسميهما المحمّليْن بدلالات ثقافيّة وسياسيّة مختلفة. والخطاب مباشر أكثر لأنّه عوّل على الوصف أي على المرئيّ.
إنّ الغاية ممّا تمّت الإشارة إليه هي التّنبيه على أنّنا إزاء شاعر مسكون بهواجس كثيرة، في ما كتب، ومن هذه الهواجس البحث عن بدائل جماليّة في الواقع المعيش وفي الكتابة في آن معا. يقول في قصيدة “تحيّة إلى شباب القصبة”:
من قال: إنّ حياتنا تحتاج أدعيةً
وسحرا؟
من قال: إنّ قبورنا تحتاج حكّاما
وقهرا؟
كذبوا…
وأنتَ رأيتَهم … في ساحةِ الشّهداءِ
يستجدون عذرا
تحتَ الطّبيعةِ كان صوتك عاليا
فنبتتَ أسلوبا وفكرا
وصرختَ في من كان فيهم كائنا
زمني هنا والآن
ليس غدا وأمسِ
هنا وفورًا
لم تترك السّاحات إلاّ معجزَا
ومكرَّمًا تختالُ نصرا
والأرضُ حولكَ
أرضُ فرعون الفسيحة…
زُلزلت مصرا فمصرا
خمسونُ عامًا يكذبون ويقتلون
وينفقون دما وغدرا
واصلْ طريقكَ واقفا
أمّا البقيّةُ فهي لي
سأريكها…
عمّا قريب يا أخي
شعرا ونثرا(6).
إنّ الحرص على استنبات الجماليّ في الكتابة والسّياسة والمعيش اليوميّ في آن معا دليل على أنّ الشّاعر يحاول أن يبتدع أفقا جديدا للشّعر والحياة. فالمدخل الأمثل إلى تحقيق القيميّ والرّمزيّ في التّاريخ هو تجاوز “التّراجيديّ” في الكون والتّأسيس “لإنسانيّة الإنسان” التي لا تكون إلاّ بالشّروع في الصّعود نحو أفق شعريّ إنسانيّ مفتوح على الثّورة لا باعتبارها حدثا، محدودا بزمان ومكان، وإنّما باعتبارها سيرورة تحوّلات تطول كلّ شيء، وتجربةً يذهب فيها الإنسان إلى أقصى ممكناته يوميّا:
أكتبُ الآن نشيدي بدمي
لشهيد كان صوتي وفمي
لغد لم يأتني يا صاحبي منذ قرون
تونسيٌّ مرّةً واحدةً
تونسيٌّ، دفعةً واحدةً، أو لا أكون(7).
إنّ الكتابة بالدّم هي كتابة بالجسد وانفعالاته، أي كتابة بالذّات وحالاتها المختلفة وإيقاعاتها اللاّنهائيّة. وإذا كان قدر كتابات كثيرة أن تُطمَسَ، فإنّ الكتابة بالدّم لا تُطمَسُ لأنّ ذاكرة التّاريخ لا تَنسى من كتبوا أوطانهم والقيم الإنسانيّة بدمائهم. ومن كتبوا تونسَ بأجسادهم أو من تحوّلت دماؤهم إلى حبر لكتابة تونس أو من تشظّت أجسادهم في حبّ تونس هم أؤلئك الذين أتاحوا لنا نحن أن ننتبه إلى أنّ الوطن ليس مكانا، وإنّما هو عاطفة وانفعال. فهو يسكُكنا مثلما نسكنه، وهو ماثل فينا كالحبّ يحتاج إلى من يوقظه أو يُذكي جَذوَته فقط:
نحبُّ البلاد كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ(8)
صباحًا مساءً، وقبلَ الصّباحِ، وبعدَ المساءِ
ويوم الأحدْ
المفاجئُ اللاّفتُ، مثلا، في هذه القصيدة هو تركيب’’ يوم الأحد‘‘. ويمكن أن يكون هذا تكرار التّركيب مدخلا إلى الحديث عن “سخريّة” ما من السّلطة الحاكمة-النّظام الحاكم. فـ”يوم الأحد” هو يوم عطلة. ومادّة “ع/ط/ل” تدور حول معاني: الخلوُّ والتّرك والنّزعُ والإهمالُ والإفقارُ والموتُ.
والمفاجئ، كذلك، هو ملاعبة الزّمن: صباحًا/ مساءً، قبلَ الصّباح/ بعدَ المساء. وهي ملاعبة تكشف قدرته على مداورة الكلام واشتقاق المعنى من صيغٍ وتراكيبَ ومعاجمَ قد تبدو لبعضهم بعيدة عن الشّعر، فكأنّما ثمّة كلمة شعريّة وأخرى غير شعريّة، والحال أنّ أمر الشّعر عامّة معقود باختيارات الشّاعر وبقدرته على تحويل الحياة بمعانيها المختلفة إلى قصيدة. وههنا يصبح التّقابل واضحا بين من يحبّ البلاد ويكتب سيرتها وتاريخها بعرقه ودمه أو بجسده في حالاته المختلفة، على امتداد حياته، ومن يدّعي حبَّ البلاد وهو “عُطُلٌ” من ذلك الحبّ. فالحاكم “عُطُلٌ” أي خِلْوٌ من حبّ البلاد أو فارغ القلب من حبّها ولكنّه يدّعي ذلك. وشتّان بين العاشق الصبّ والمدّعي الكاذب:
ولو قتّلونا كمَا قتّلُونا
ولو شرّدُونا كما شرّدُونا
لعُدْنا غزاةً لهذا البلدْ.
لا شيء يؤكّد معنى العشق وحالة الوجد والهيام إلاّ هذا الإصرار على العودة إلى “هذا البلد-تونس” حتّى إذا كان “العاشق” قد أُفرد وأُبعد ونُفيَ. ولعلّ صيغة “فعّل” المتكرّرة: قتّل/ قتّل/ شرّد/ شرّد/ تؤكّد/ معنى الإصرار على العشق رفضا لأعراف “القبيلة-السّلطة الحاكمة”.
إنّ خصيصة أولاد أحمد أنّه سعى دائما إلى أن يجعل الشّعر الاسمَ الآخرَ لحياته هو وحياة التّونسيّين. وما من شكّ في أنّ مثلَ هذا السّعيَ اختيارٌ والتزامٌ مكلفان. فجعل القصيدة صوتا يُردّد إيقاع اليوميّ والايديولوجيّ تترتّب عليه تبعاتٌ متفاوتة. فمثل هذا الاختيار يقتات من الجسد الذّاتيّ لأنّ كتابة اليوميّ والايديولوجيّ تحتاج إلى انفعال بالسّياقات المعيشة كلّها، فضلا عن ترصّد السّلطةِ لكلّ من يُحوّل اليوميَّ إلى خطاب فنّيّ لأنّ عيوب الحاكم لا تُكتَشَفُ في تفاصيلها إلاّ في حيّز اليوميّ. ويمكن أن نضيف إلى ما تمّت الإشارة إليه من تبعات، محنة أخرى عاناها أولاد أحمد وعاناها معه الطّاهر الهمّامي، مثلا، وهي “بدعة نقديّة” يرى أصحابها أنّ القصيدةَ لا تستحقّ صفة الشّعر إلاّ إذا قطعت صلاتها باليوميّ وأعرضت عن الايديولوجيّ والسّياسيّ وأوغلت في التّخييل والإغراب والإبهام.
وقد كان أولاد أحمد وفيّا لذاته واختياراته إلى حدّ بلغ تكفيره وإهدارَ دمه. وهذا دليل على ضيق الثّقافة العربيّة الإسلاميّة بالمختلِفِ. فهي تحاول أن تدجّنه لتضعف حضوره وتحدّ من سلطته أو ترفضه وتدفعه إلى دائرة المهمشّ لتتخلّص منه لأنّها لا تراه إلاّ مضادّا لها.
ولسنا نغالي إذا اعتبرنا كتابة أولاد أحمد كتابة مضادّة باستمرار. فنعت هذه التّجربة بأنّها تجربة “الكتابة الحدَثيّة” يضعُها في سياق الكتابة المضادّة، ويضع صاحبها في مرتبة الرّمز. فالأحداث التي أدار عليها أولاد أحمد خطاباتِه هي أحداث فارقة أوفاصلة في التّاريخ السّياسيّ والاجتماعيّ التّونسيّ. وحتّى ما كُتب غير متعلّق بحدث سياسيّ أو اجتماعيّ مباشر فإنّه لا يخلو في كثير من الأحيان من تقاطعات الذّاتيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ بصفة عامّة.
وشعريّة الكتابة الحَدَثِيَّة هي شعريّة التّرجيع الانفعاليّ لما حدث. فحدث الموت، مثلا، ليس مهمًّا في حدّ ذاته بالنّسبة إلى الشّاعر، لأنّ الرّهان ليس الحديث عن الموت وإنّما التّعبير عن أثر الموت في الذّات وما يترتّب عليه من تحوّلات في العلاقات بين الذّات وذاتها، والذّات والآخر، والذّات والعالم. فقصيدة الحدث هي قصيدة العلاقات الممكنة أو المحتملة أو المتوقّعة بين الذّات المنفعلة، من جهة، الحدث الذي يتحوّل إلى أثرٍ(trace) من جهة أخرى.
إنّ ما تعقده قصيدة أولاد أحمد من صلات مع الحدث هو المدخل إلى تأمّل شعريّتها. فالشّعر بالنّسبة إليه هو الصّوت الكليّ الجامع الذي يمكن أن ينطق بمختلف الأسئلة: أسئلة الذّات والآخر والوطن والوجود عامّة. فقصيدته منفتحة على الخطابات اليوميّة تلتقط منها ما يمكن أن يكون مشتركا إنسانيّا حتّى إن كان في البدء، وفي لحظة الانفعال الأولى، ممّا يصنَّف في خانة الذّاتيّ.
إنّ كثيرا من القيميّ-الايتيقيّ المتواتر أو المتكرّر -بأشكال وصور ودرجات متفاوتة بطبيعة الحال- في شعر محمّد الصغيّر هو ذاته المتكرّر المتعاود لدى كثير من الشّعراء شرقا وغربا، نعني شعراء الحياة والحريّة والفكر والنّضال ضدّ الدّيكتاتوريّة والاستبداد. وهذا وحده كاف ليكون الصغيّر رمزا من رموز تونس الحديثة والحداثيّة.
—
هوامش:
(1) Takmart/ Takmert التّاكمرت هو الاسم البربريّ لسبخة الجريد. وكانت تُسمّى سبخة فرعونFaraoun كذلك. وسبخة Tritonis أو Tritonitis وTriton هو إله بحريّ نصفه الأعلى إنسانٌ ونصفه الأسفل سمكةٌ.
ويرجّح صاحب مقال Le lac tritonis et les noms anciens du Chott Eljerid أنّ الاسم التّاكمرت Takmart/ Takmert (وجدناها مكتوبة بـــــa وبـــe) يعني في البربريّة “العبور الخطر أو المحفوف بالخطر” Passage dangereux/périlleux وقد ذكر الرّحالة العرب بعض أخبار هذا المكان. وتحدّثوا عن عسر اجتيازه أو عبوره وما يمكن أن يحدث فيه من أهوال وغرائب.
يقول التّجاني في رحلته (…) وأصبحنا يوم الخميس متوجّهين إلى توزر. فارتحلنا عن نفزاوة ظهرا مقرّبين لمرحلتنا من الغد. وشرعنا في أوّل السّبخة المعروفة بتاكمرت. فقطعنا يسيرا منها. وبتنا هناك على عين ماء. فلمّا كان ثلث اللّيل الأخير ارتحلنا. وأخذنا في اجتياز هذه السّبخة فلم نقطعها سُرًى وسيرا إلى الزّوال من الغد، وهو يوم الجمعة. ووجدنا فيها معالم قائمة من جذوع النّخل تمنع السّالك عن الخروج عن طريقها المسلوك يمينا وشمالا لأنّ ما على يمينها وشمالها مغائَض لا تثبت عليها قدم ولا يسلكها أحد جاهل بها إلاّ غاص فيها. قال البكري في المسالك: وقد هلكت فيها الجماعات والعساكر ممّن دخلها ولم يدر أمرها‘‘ تمّ كلامه. وإذ غاص فيها أحد التأمت الأرض في الحين وعادت كما كانت. وأخبرنا مخدومنا قال: أخبرني محمّد بن جامع المرداسي، قال: سلكتها قافلة لنا فيها ألف جمل. فندّ بعير منها عن الطّريق وتبعه باقي الإبل فلم يكن أسرع من أن ساخت في الأرض وغاص فيها ألف جمل ثمّ عادت الأرض كما كانت، وكأن لم يكن لتلك الإبل من أثر. وذكر أبو الحجاج مسيّر يوسف بن منصور إلى توزر، فقال: وتمادى به السّير إلى الملاحة المجاورة لتوزر. وهي من غرائب الدّنيا التي أغفلها المؤرّخون وأهمل وصفها الإخباريّون، فإنّها أميال في أميال كاللّجين المسبوك أو المرمر المحكوك يكاد ينفذه البصر لصفائه، وكأنّما هو غدير جمد بمائه. قال: وآن وقت صلاة الصّبح والنّاس يمشون فيها فصلّوا منها على بساط من الكافور أو سطح من البلّور. قال: ولمّا تمادى المشي في هذه السّبخة إلى وسط النّهار وتوالى عليها تكرار الحافر وتردّد الآثار تخرّق منها نحو مائة ذراع في ما يقرب من البرّ. فكلّ ما تخلّف من الحمولة والأثقال ابتلعته وساخت الجمال بأحمالها فما أُخرِجت إلاّ أشلاء بعد نحرها حيث ساخت فهلك بذلك جملة من الزّاملة ورزح الظّهر وذهب أكثر الحمولة. وأمّا أنا فشاهدت الرّجل يدفع سافلة الرّمح في الأرض ويعتمد عليه إلى عاليته ولو ازداد دفعا لازداد نزولا، فإذا جذبه عادت الأرض إلى حالتها الأولى. ووجدنا كثيرا من تلك المعالم قد سقطت وأبعده (كذا) الرّيح عن مكانه. وتحت كثير منها عظام، هنالك من النّاس وإلى جانب عمود منها امرأة قد ضمّت يدها على طفلة فماتتا معا (…) ومن العجب أنّ هذه السّبخة لا يمكن أن يُشرب بها ما عذب فإنّ الماء إذا استصحب فيها عاد بهوائها ملحا أجاجا على طبعها.
رحلة التّجاني، قدّم لها حسن حسني عبد الوهّاب، الدّار العربيّة للكتاب، ليبيا-تونس1981، ص154، ص155، ص156.
(2) Maurice Blanchot, L’entretien infini, Gallimard, Paris, 1969. ‘‘le quotidien échappe. C’est sa définition’’ (p.359) ‘‘le quotidien : ce qu’il y a de plus difficile à découvrir” (p.355).
(3) محمّد الصغيّر أولاد أحمد، حالات الطّريق، منشورات أولاد أحمد، تونس 2013.
(4) محمّد الصغيّر أولاد أحمد، نشيد الأيّام الستّة، مخطوط، ص7.
(5) نفسه، ص12، ص13.
(6) محمّد الصغيّر أولاد أحمد، حالات الطّريق، ص97، ص98.
(7) محمّد الصغيّر أولاد أحمد، حالات الطّريق، ص100.
(8) ثمّة خطأ يجب التّنبيه إليه. وهو أنّ التّركيب ’’نحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد أحد‘‘ لا معنى له لأنّه قائم على تناقض. والمقصود هو أنّنا نحبّ البلاد حبّا يفوق أيّ حبّ آخر. وهذا المعنى لا يُعبَّر عنه بالتّركيب المذكور، وإنّما بتركيب آخر هو ’’كما لم يُحبّ‘‘ وليس ’’كما لا يحبّ‘‘. وتغيير التّركيب الخطأ بالتّركيب الصّواب لا يربك الوزن (المتقارب).