بقلم علي البعزاوي
مرّت منذ حوالي أسبوع أربعة عشر شهرا على إيقاف مجموعة من السياسيين المتهمين فيما بات يعرف بقضية “التآمر على أمن الدولة”. وكان يُفترَض أن يقع إطلاق سراحهم بعد استيفاء المدة القانونية للإيقاف التحفظي، لكن وفي تجاوز صارخ لقرينة البراءة وفي ظلّ شبهات تلاعب بالإجراءات القانونية وتطويع الجهاز القضائي حسب تقديرات هيئة الدفاع ومجمل المتابعين، وقع الإبقاء عليهم داخل السجن في انتظار المثول أمام القضاء رغم أنهم لم يحملوا السلاح ولم يأتوا بما من شأنه أن يشكّل خطرا على الأمن العام وهم ينتمون في معظمهم إلى تيّارات وأحزاب سياسية عرفت بمواقفها السلمية المدنية وشاركت في أغلب المحطات الانتخابية وبعضها تحمّل المسؤولية في الحكم.
خلفية المسألة
الواضح أنّ ما وقع تداوله بشأن التهم الموجّهة ضدّ المعنيّين بملف هذه القضية لا يتناسب مع كلّ هذه الإجراءات والقرارات المتّخذة في حقهم والتي تدفع إلى التساؤل حول الخلفية الحقيقية للقضية.
إنّ ما يجري في علاقة بهذه المجموعة يندرج في الحقيقة في إطار محاولة من السلطة القائمة لتصفية الحساب مع المعارضين السياسيين وإفراغ الساحة من الأحزاب والشخصيات السياسية والتمهيد لتثبيت النظام الشعبوي الاستبدادي في الحكم بعد إجراء “الاستفتاء الانتخابي الرئاسي” المنتظر بأقل الأضرار والعراقيل الممكنة كخطوة نحو شلّ الأجسام الوسيطة عموما بما في ذلك المنظمات والجمعيات واندثارها نهائيا وتربّع الحاكم بأمره على عرش السلطة كمخاطب وحيد للشعب التونسي في غياب تامٍّ لمؤسسات منتخبة وممثلة وفاعلة لها صلاحيات اتخاذ القرار والمتابعة والمحاسبة. وهو الأسلوب وشكل السلطة الأمثل لتمرير السّياسات والخيارات النيولبرالية المتوحشة التي سعت إلى تكريسها كلّ المنظومات والحكومات التي تعاقبت على الحكم بعد 14 جانفي ولاقت صعوبات جديّة في تمريرها كاملة بما يخدم مصالح كبرى الشركات والمؤسسات والدول النهّابة ووكلائهم المحلّيين. إن الحريات السياسية ومجمل الحقوق التي فرضتها ثورة الشعب التونسي أصبحت تشكّل مع مرور الوقت الزائدة التي لابدّ من قطعها لوقف “النزيف” الذي مسّ مصالح الكمبرادور ومشغّليه من القوى الاستعمارية.
لقد أصبحت المكاسب الديمقراطية على محدوديتها، ورغم تلويثها وتعفينها من طرف الحكومات المتعاقبة، العقبة الرئيسية التي تَحول دون الالتفاف نهائيا على الثورة وغلق قوسها. لذا لا بدّ من خطوات جدية وصارمة لتثبيت هذا الالتفاف وتكريسه كأمر واقع، وهو ما تسعى الشعبوية اليمينيّة الاستبدادية اليوم إلى تفعيله من خلال الخطوات والمحطّات التي قطعتها ببعض النجاح.
الموقوفون لا يعبّرون عن الثورة، ولكن…
يقول رجل الدين الألماني المعارض وأحد ضحايا النازية، مارتن نيمولر: “عندما اعتقلوا الشيوعيين لم أبال لأنني لست شيوعي. وعندما اعتقلوا النقابيين لم أبال لأنني لست نقابيا. وعندما اعتقلوا الاشتراكيين الديمقراطيين لم أبال لأنني لست اشتراكيا ديمقراطيا. وعندما اعتقلوا اليهود لم أبال لأنني بروتستنتي. وعندما جاؤوا لاعتقالي لم يبق أحد حينها للدفاع عنّي”.
جوهر هذه القولة الشّهيرة هو ما يقود حزب العمال في تحديد موقفه من الانتهاكات مهما كان لون الضحية إيمانًا منه بأن الحقوق والحريات كلٌّ لا يتجزّأ بقطع النظر عن المواقف والسياسات والبرامج التي يتبنّاها هذا الطرف أو ذاك، وسواء كانت منتصرة لأهداف الثورة أو متباينة معها. فالحسم الحقيقي لصالح هذا المشروع أو ذاك هو حسم ديمقراطي يتّخذه الشعب بملء إرادته عندما تتوفر أمامه فرص الاختيار الحقيقي.
إن لحزب العمال موقفا مبدئيا من حقوق الإنسان لا يتكيّف بالظروف أو بالانتماء الفكري والسياسي والتنظيمي لضحايا الانتهاكات. فهو يدافع عن حقوق الإنسان دون ميزٍ أو استثناءٍ، وبنفس الالتزام والحماسة في كل الحالات، وذلك لعدّة أسباب منها ما هو مبدئي عامّ ومنها ما هو سياسي. فبالنسبة إلى ما هو مبدئي، فإن “العصا” (كرمز للتعذيب) هي “العصا”، موجعة ومهينة سواء كان الضحية شيوعيا أو قوميا أو ليبراليا أو “إسلاميا” أو حتى إرهابيا. وبالتالي لا يمكن رفضها في حالات وقبولها في حالات أخرى، رفضها عندما يتعلق الأمر بالذات أو الصّديق أو الحليف، وقبولها والصمت عليها عندما يكون الضحية خصما أو عدوّا أو عندما تقتضي ذلك بعض “المصالح السياسوية”. فهذه المواقف غير ثابتة وغير متماسكة بل غارقة في الانتهازية ولا يمكن الاطمئنان إلى صاحبها في المعارك الديمقراطية الحاسمة.
أمّا بالنسبة إلى ما هو سياسي، فحزب العمال يعتبر أنّ المستفيد الوحيد من أيّ موقف انتهازي في التعامل مع قضية حقوق الإنسان، هو منتهكها الذي يهمّه أن يتواطأ معه كلّ مرّة طرف ضدّ طرف آخر، بالصمت على تلك الانتهاكات أو بمساندتها على المكشوف مقابل وعدٍ أو صفقة ممّا يُديم في عمرها وفي العمر السياسي لمرتكبيها، علما وأن من يسكت اليوم على انتهاكات حقوق الإنسان بدافع انتهازي قد يأتي دوره لاحقا ويتعرّض إلى نفس الإنتهاكات. فعندما يمارس التعذيب مثلا ضدّ طرف ليس ثمة ما يمنع ممارسته ضدّ أي طرف آخر، بل إن ذلك هو الحاصل عامة والمسألة مسألة ظرف وتوقيت.
إن الدفاع الصّارم والمبدئي عن حقوق الإنسان دون ميزٍ أو استثناءٍ هو موقف الديمقراطي الحقيقي الثابت والمتماسك الذي لا يحسب أيّ حساب سياسوي عندما يقف أمام أيّ انتهاك لتلك الحقوق، فيدينه بشدّة مهما كان المنتهك ومهما كان الضحية. ومثل هذا الموقف لا يستفيد منه حزب أو اتّجاه فكري أو سياسي معيّن بل الشعب بأسره الذي يرتقي إلى مرتبة أعلى من المدنية والتحضر وحتى من الإنسانية تجعله متيقْظا باستمرار حيال كل سلوك أو ممارسة وحشيّة وبربريّة فيقاومها بلا هوادة لأن مصلحته في الحرية وليس في الاستبداد.
مناخ غير مناسب للانتخابات
إن الإبقاء على المتّهمين رهن الإيقاف ورفض الإفراج عنهم بعد انقضاء المدة القصوى للإيقاف التحفّظي من شأنه أن يساهم في تسميم المناخ السياسي العام الذي ستجري فيه الانتخابات الرئاسية القادمة والتي لم تعد تفصلنا عنها سوى أشهر قليلة. هذا المناخ الذي يتّسم باحتكار المشهد العام في ظلّ أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، وتضييق ممنهج على حرية التعبير والإعلام وعلى الحق في النشاط الحرّ بموجب المرسوم 54 الذي يصرّ الحاكم بأمره على استمراره وتطبيقه حتى بعد انتخاب مجلس النواب الذي لم يتجرا على إلغاء العمل به أو مراجعته. وفي ظلّ تصحّر سياسي وثقافي واستهداف للمنظمات وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل. وفي ظلّ الهيمنة على وسائل الإعلام العمومية الممولة من جيب المواطن والضغط على وسائل الإعلام الخاصة. وشنّ حملات تشويه ضدّ بعض المبادرين بخوض غمار الانتخابات الرئاسية القادمة واتّهامهم بالارتماء في أحضان الخارج.
إن المناخ السياسي العام متعفّن وغير ملائم لانتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة بقطع النظر عن القانون الانتخابي وتفاصيله وعن التّزكيات التي مازالت غير واضحة وعن دستور الانقلاب الذي يعلو على القوانين العادية والذي على أساسه ستضبط شروط الترشح وخاصة شرط التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وعن هيئة الانتخابات غير المحايدة وعن القضاء الخاضع وغير المستقل إلى جانب غياب المحكمة الدستورية.
إن هذا المناخ غير قابل منطقيا للتنقية قبل إجراء الانتخابات باعتبار قِصر المدّة التي مازالت تفصلنا عنها أولا وباعتبار عدم وجود رغبة سياسية واضحة أو مؤشرات ملموسة على إمكانية التوجه نحو معالجة الأوضاع ثانيا. فالخطاب السياسي مازال متشنّجا، والتهديدات والتشويهات مستمرّة إضافة إلى الإصرار على التضييق والمنع والاستهداف… وهو ما من شأنه أن يساهم في مزيد الدفع نحو مقاطعتها كخيار وحيد منطقي ومقبول إلا إذا كانت مشاركة شكلية واعية الغاية منها إضفاء شرعية عليها.
إنّ أوضاع البلاد تتّجه نحو مزيد التعقيد والتأزٍم على كل الأصعدة والانتخابات القادمة لن تشكل المخرج / الحلّ لهذه الأزمة المركّبة بل أحد عناصر مفاقمتها.