الرئيسية / صوت الوطن / أزمة الماء في تونس: الشعب التونسي يعطش!
أزمة الماء في تونس: الشعب التونسي يعطش!

أزمة الماء في تونس: الشعب التونسي يعطش!

بقلم علي الجلولي

تعرف بلادنا منذ سنوات استفحال أزمة مسّت الحاجة الأكثر حيويّة وهي الماء الصالح للشرب والتي بلغت اليوم درجة تهدّد جدّيا جزء مهمّا من الشعب بالعطش المتواصل، ويشمل هذا الوضع تقريبا كل جهات البلاد بما في ذلك الجهات التي تعدّ مصدرا لهذه الثروة الحيوية مثل جهة جندوبة والشمال الغربي عموما. لقد تحرّك المواطنون في المدّة الأخيرة في أكثر من مكان للاحتجاج على انقطاع مياه الشرب (مساكن، بوعرادة…)، لكن السلطة خيّرت كالعادة الهروب إلى الأمام وعدم مصارحة الشعب بالحقيقة حول هذا الملف، وكذلك عدم الاستعداد لأيّ معالجة جدية لهذا الموضوع الحيوي، بل إنها اتّجهت إلى قرارات شعبوية لم تغيّر شيئا من الواقع المرّ مثل إقالة المدير العام لشركة المياه وفتح تحقيق قضائي حول انقطاع المياه (؟؟؟). لكن مشكل ضخّ مياه الشرب إلى المنازل مازال مستمرا، وقد صرّح مواطنون في أكثر من جهة أن المياه منقطعة عنهم بشكل مستمرّ أو شبه مستمر منذ قرابة الشهر، يتمّ هذا ونحن في عزّ الصائفة وفي ذروة الحاجة إلى المياه. فما هي الحقيقة في هذا الموضوع؟

مشكل الماء يستمرّ منذ سنوات

تقِرّ المعايير الدولية بحاجة الفرد إلى 900 متر مكعب سنويا على الأقل حتى لا يدخل منطقة الفقر المائي، أمّا في تونس فإن نصيب الفرد لم يتجاوز 400 متر مكعّب سنة 2022، أي أن التونسي/ة يتمتّع بأقل من نصف كمية المياه المستوجبة كي يعيش بشكل طبيعي (شرب، استحمام…). هذا ويعدّ مشكل المياه مشكلا مستمرّا منذ سنوات وهو بصدد الاستفحال سواء بحكم العوامل الطبيعية والتحوّلات المناخية التي تهمّ بلادنا مثل العديد من بلدان العالم، أو بحكم غياب المعالجة الجدّيّة والمسؤولة لمشكل حيوي تتوقف عليه حياة البشر والحيوان والطبيعة ومختلف الأنشطة الاقتصادية من الزراعة والصناعة… إضافة إلى سوء التصرّف وفساده في هذه الثروة الأساسية للوجود.
توفِّر التّساقطات حوالي 36 مليار متر مكعب سنويا يتبخّر أغلبها بحكم نوعية الأمطار وتواترها وارتباطها بالخصوصيات المناخية في بلادنا، ومن هذه الكمية لا يبقى محفوظا إلا 8.4 مليار متر مكعب، وهي نسبة قليلة حكمت على السّدود بأن لا تحتوي إلا على نسبة محدودة من حاجيات البلاد من المياه وهي لا تتجاوز اليوم ثلث الحاجيات مما أدّى في أغلب السدود والبحيرات الجبلية إلى ما يشبه حالة النضوب والموت التدريجي. صحيح إن للطبيعة أحكام في هذا الصدد، لكن أيضا للبشر وللسياسة دور حيوي في استفحال أزمة المياه، ويتعلق الأمر حسب الخبراء إلى غياب أي مقاربة للتعاطي مع حالة الجفاف وتراجع التساقطات وحسن التصرْف فيما توفّر منها والذي يتّجه أغلبه إلى البحر وإلى التعفن في أزقّة المدن وأحيائها، يضاف إلى ذلك غياب أيّ مقاربة للتداول مع الجار الجزائري الذي تضخّ جباله إلى شمال تونس نصيبا مهمّا من كميات المياه التي تجد طريقها إلى الوديان وإلى السدود والبحيرات، فقد اتجهت الجزائر في السنوات الأخيرة إلى وضع اليد كاملة على كميات التساقطات التي تحتضنها جبال الأطلس الأوسط وبعثت في هذا الصدد مشاريع زراعية ضخمة في وسط الجزائر وشرقها بما حرم تونس من كميات هامة من مياه الأمطار كانت تموّل الاحتياطي المائي الموجّه للشرب أو للزراعة. والواضح أن الدولة التونسية لا تطرح الموضوع للتفاوض والتداول مع الدولة الجزائرية مثلما تفعل كل الدّول المتجاورة التي يعتبر موضوع الماء من أهم موضوعات العلاقات السياسية، اتّفاقا أو صراعا، بل أن الخبراء الجيوستراتيجيين يؤكدون أن الماء سيكون العنوان الأبرز لصراعات منتصف القرن الحالي، وهو أمر حاصل في عديد المناطق من العالم وفي كلّ القارات. علما وأن مياه الشمال تشكّل 61% من مياه تونس، كما أن تونس تعتمد أكثر على المياه الباطنية بنسبة 77% والمياه السطحية بنسبة 22% فيما لا تتجاوز المياه المعالجة 1%.
الكمية الأهم (72%) من المياه الموجهة للاستهلاك عبر “الصوناد” تذهب نحو الاستهلاك المنزلي، أمّا السياحة فتستعمل 6% من المياه الموجهة للاستهلاك عبر “الصوناد” بما يعادل 36 مليون متر مكعب وهي كمية ضخمة جدا، إذ يصل نصيب السائح الواحد في نزل خمس نجوم إلى 900 متر مكعب يوميا، وهو وجه من وجوه سوء التصرف بل والفساد، علما وأن القطاع الصناعي لا يتجاوز نصيبه 9%(*)، وهي نسبة أكثر بقليل من نصيب القطاع السياحي الذي يعتبر في بلادنا استنزافا لخيرات البلاد دون مردودية اقتصادية ذات أهمية، فالأرقام المعلنة حول مداخيل هذا القطاع تتمّ دون الإفصاح عن حقيقة المصاريف التي توجه لهذا القطاع بما فيها مصاريف المياه والكهرباء التي تظلّ ديونا غير خالصة من قبل رأس المال الخاص الذي يستفيد من كل التسهيلات بما فيها تمتيعه بالماء دون انقطاع فيما يعاني المواطنون في أغلب جهات البلاد من قطع مياه الشرب لساعات وأحيانا لأيام متتالية.

أزمة المياه دليل فشل منظومة الحكم

إنّ استفحال الأزمة واستمرارها هو دليل على عقم المقاربة أو انعدامها، وطالما أن الأمر يتعلق بشرط جوهري للوجود فإن السبب يعود إلى فشل في إدارة الشأن العام في أبسط شروطه. إن شعبنا يتعرّض اليوم إلى عملية تعطيش مستمر في قائضة الصيف وحرارته الاستثنائية في السنوات الأخيرة. إن الدولة لا تتردّد لحظة في قطع المياه لساعات طوال على أحياء بكاملها، وكما لا يخجل مسؤولوها من التصريح للناس العطشى أن الدولة تعتمد نظام الحصص في توزيع الماء، لكن القاصي والداني يعرف أن ذلك مُجانب للحقيقة، فقطع المياه لا يشمل إلا الأحياء الفقيرة والشعبية، فيما يستمرّ ضخّ المياه عاديا في الأحياء المرفّهة والمناطق السياحية أين يتمّ تبذير المياه دون أيّ اعتبار لكرامة الشعب ولفئاته وطبقاته المفقّرة.
إن الكميات الضخمة من المياه الموجّهة إلى الأثرياء والسيّاح إنما توجه للمسابح وللترفيه، فيما يحرم الشعب من حقه في الشرب والاستحمام والنظافة، ويضطر أغلب الناس إلى العودة لمظاهر البؤس مثل تعبئة القوارير وشراء المياه غير الصحية التي تعرف أسعارها ارتفاعا مشطا بما يشكل عبئا إضافيا على ميزانية الفقراء، علما وأن مياه الحنفية في عديد الجهات ليست دائما صالحة للشرب، ويضطرّ أغلب التونسيات والتونسيين إلى اقتناء المياه المعدنية التي تعرف أسعارها صعودا متواصلا.
إنّ شعب تونس المحروم من خيرات بلاده يعيش اليوم، بعد طوابير الخبز والحليب والقهوة، العطش في ذروة الصّائفة، وهي أزمة لن تنفرج بمقتضى تصريحات مسؤولي الدولة حول حقيقة احتياطي المياه وحول تأخّر مشاريع تحلية مياه البحر مثل تأخر كل المشاريع المبرمجة على كل الواجهات.
إن عطش الشعب هو دليل إضافي على فشل منظومة الحكم الرّجعي القائم، أمس واليوم، وهو دليل إضافي على عجز الشعبوية على حلّ مشاكل البلاد، وهو أيضا معطى أساسي لن يغذّي إلا السُّخط والغضب تجاه سلطة لم تفلح في شيء إلا في المغالطة والتجويع والتعطيش والإذلال. علما وأن العطش لا يشمل البشر فقط، بل يشمل أيضا الحيوان والنبات، أي القطاع الفلاحي الذي يعرف مزيد التدهور بحكم نفس الأسباب.

(*) بعض الأرقام الإحصائيّة المعتمدة في هذا المقال مأخوذة من دراسة “أزمة المياه في تونس” أصدرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ديسمبر 2022.

إلى الأعلى
×