نظّمت يوم الأربعاء 17 جويلية الجاري ستة أحزاب ديمقراطية ندوة سياسية مفتوحة بالعاصمة بعنوان “انتخابات 6 أكتوبر 2024: انتخابات رئاسية أم تزكية؟”. وقدّم لهذه الندوة الأستاذ أحمد صواب، القاضي السابق بالمحكمة الإدارية والناشط المدني. وتلت ذلك مداخلات لقياديّين من الأحزاب المنظّمة حول نفس الموضوع أي ظروف الانتخابات القادمة قانونا ومناخا سياسيا عامّا. ولا يمكن لأي متتبّع لكل التدخّلات التي كانت دقيقة ومركّزة وواضحة ومقنعة بما فيها من معطيات وتحليل ومقارنات إلّا أن يخرج باستنتاج وحيد أوحد وهو أن موعد 6 أكتوبر القادم لن يكون موعد انتخابات رئاسية بالمعنى الديمقراطي للكلمة وإنّما موعد لتزكية قيس سعيّد الذي أعدّ العدّة لتكون آخر حلقة في المسار الانقلابي الذي يهدف إلى تركيز نظام الحكم الفردي المطلق.
ولكن ما إن بدأ النقاش داخل القاعة التي كانت تعجّ بالمهتمّين بالشأن العام من مناضلات/مناضلين من الأحزاب ومن منظمات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة والإعلاميات/الإعلاميّين، رغم حرارة الطقس، حتّى بدأت تظهر الخلافات حول الموقف العملي المطروح على قوى المعارضة الديمقراطيّة التقدّميّة اتّخاذه في حالة كهذه. فلئن خلص البعض إلى أنّ الموقف السّليم هو المقاطعة النشيطة لفضح المهزلة وعزل قيس سعيّد الذي يبحث عن كسب شرعية زائفة والتقدم ببديل للشعب التونسي يُخرجه ويخرج البلاد من النفق المظلم، فإن البعض الآخر قفز تقريبا عن كل ما قدّم في المداخلات، وخاصة مداخلة الأستاذ أحمد صواب “الشافية العافية”، ليطرح ألّا حلّ خارج المشاركة والالتفاف حول “مرشّح واحد”، وبالطبع فإن كلّ متدخّل كان يحمل في ذهنه الإسم الذي يراه مؤهّلا ليكون ذلك “المرشّح الواحد” ولم يبح إلا متدخّل واحد باسم “مرشّحه الواحد” في حين اكتفى البعض الآخر بتحديد مواصفاته.
إن المشكل كلّ المشكل يتمثّل في أن المدافعين عن موقف المشاركة لم يقدّموا سوى جمل عامة لتبرير هذا الموقف وعجزوا في الحقيقة عن الإجابة عن السّؤال الجوهري التالي: إذا كانت الشروط الديمقراطية الدنيا غير متوفرة في هذه الانتخابات فبأيّ وسيلة سيقع التصدي لقيس سعيّد لإفشال مشروعه من داخل المربّع الذي حدّده على قياسه وهو ماض في تجسيده، ولا أدلّ على ذلك من الاعتقالات الأخيرة والأحكام الصّادرة بشأن بعض المرشّحين وعرقلة تمكين البعض الآخر (بعض المعتقلين السياسيين) من استمارة التزكيات بتعلّات واهية؟ لقد اكتفى البعض بتكرار ما ظلّ يقوله منذ أشهر خلت بشأن “ضرورة القيام بتعبئة كبيرة فيما تبقّى من وقت لقلب المعادلة” دون أن يفسّر أسباب عدم تحقيق هذه التعبئة “المنشودة” خلال ما فات من وقت وكيفيّة تحقيقها فيما تبقّى من وقت؟ أما البعض الآخر فقد اكتفى بتأكيد أن المقاطعة “لا فائدة منها” لأنها في ذهنه تعني الجلوس على الرّبوة واللامبالاة، بل إنه زعم أنها تخدم قيس سعيّد وعليه فإن المشاركة تبقى الحلّ الوحيد.
إن المشكل الأوّل الذي يطرحه هذا الموقف يكمن في كون أصحابه لا يتعاملون مع موازين القوى ولا يقيمون حسابا لانعكاسات موقفهم اليوم وغدا على مسيرة الحركة الديمقراطية وحتى الشعبية. إن من يريد أن يقوم بتعبئة عليه أن يقوم بها منطقيّا لا من أجل المشاركة في مهزلة يعرف مسبقا نتائجها وإنما حول رفض هذه المهزلة والمطالبة بانتخابات تتوفر فيها الشروط الديمقراطية الدنيا أولا وقبل كل شيء. ولكن أصحاب موقف المشاركة يدركون أنهم غير قادرين على هذه التعبئة التي من شأنها قلب المعادلة وفسح الباب أمام مشاركة جدّية في ظروف تسمح بحرية الترشّح وتتيح على الأقل شكليا إمكانية المنافسة هذا إضافة إلى عجزهم عن الاتفاق على مرشح واحد رغم أن جميعهم يدعو إلى الوحدة التي لا يراها إلا في الالتفاف حول مرشحه. وهو ما يجعلهم غير قادرين، لا على الإقناع بموقف المشاركة رغم عدم توفر الشروط الدنيا لذلك، ولا على الإجابة عن السؤال المحرج التالي: أفلا تساهم المشاركة في حالٍ كهذه في إضفاء شرعية على انقلاب قيس سعيّد وحكمه الاستبدادي؟ إن سعيّد في حاجة إلى مشاركات شكليّة لاعتمادها في وضع بعض الطلاء الديمقراطي الزائف على مهزلته وهو الذي أكد أكثر من مرة أنه لن يتخلّى عن السلطة وأن الانتخابات القادمة هي بالنسبة إليه “مسألة بقاء أو فناء”.
أما المشكل الثاني فيتعلّق بالنّظرة إلى المقاطعة التي لا يرى فيها دعاة المشاركة غير الوقوف على الرّبوة. وهي نظرة غير صحيحة وحاجبة للحقيقة. إن المقاطعة التي طرحها حزب العمال هي مقاطعة نضالية، نشيطة تأخذ في الحسبان مخطط سلطة الاستبداد وحالة موازين القوى وتقترح الأسلوب الذي يمكن أن يقدم الحركة. إن المقاطعة النشيطة تعني التحرّك من أجل مزيد فضح الانقلاب وعزله بتوسيع دائرة عدم المشاركة للطعن مرّة أخرى في شرعيّته وخلق ديناميكية قابلة للتطور تدريجيا لتطرح إسقاطه عبر تعبئة اجتماعية وشعبية. وهو ما سيتطلب وقتا اعتبارا لحال الحركة حاليا. فنحن في حزب العمال لا ننقاد بالأوهام وإنما ننطلق من التحليل الملموس للواقع الملموس لنحدد موقفنا وحين يطرأ طارئ فإننا لن نتردّد في تغيير موقفنا لكنه لن يكون وقتها المشاركة في مهزلة وفق شروط سعيد وإنما إلغاء هذه المهزلة والدعوة إلى انتخابات جديدة بشروط جديدة.
ما من شكٍّ في أن قيس سعيّد بصدد ضرب منافسيه الوازنين المحتملين لحرمانهم من الترشّح. ولكن ذلك لا يمثل حجّة لتبرير المشاركة وإنّما على العكس من ذلك فإنه حجّة إضافية تؤكد أن المشاركة غير ممكنة وأن سعيّد ماضٍ في تنفيذ مخطّطه الرّامي إلى جعل انتخابات 6 أكتوبر تزكية لحكمه الفردي المطلق. وقد بيّنت السّلبية التي وُوجهت بها كل الاعتقالات التي لم تُثر احتجاجات ذات بال تجعله يتراجع في مخطّطه أن موازين القوى اليوم ليست لصالح تكتيك المشاركة بل لصالح تكتيك المقاطعة الذي من شأنه أن يسمح بالمراكمة التدريجيّة لخلق موازين القوى التي تسمح بإسقاط الانقلاب. ولا يمكن الاعتقاد أن قيس سعيّد يخير المقاطعة النشيطة على المشاركة بل إنه يخيّر المقاطعة السلبية واللامبالاة إلى جانب المشاركة الشكلية الديكورية. ونحن في حزب العمال لسنا، لا مع هذه ولا مع تلك، وإنما مع مقاطعة نضالية نشيطة.