الرئيسية / صوت الوطن / مناخ انتخابي متعفّن ومتأزّم
مناخ انتخابي متعفّن ومتأزّم

مناخ انتخابي متعفّن ومتأزّم

بقلم شريف خرايفي

يوم 6 أكتوبر القادم تنتظم ببلادنا مهزلة انتخابية جديدة. وهذه المهزلة تكتسي خطورة كبيرة لأنها تهمّ رأس السلطة أوّلا وثانيا لأنّه لا شيء يوحي بإمكانية تغيير في هذا المستوى أي أن الأرجح حتى لا نقول المؤكّد أن قيس سعيد باق في مكانه. وربّما ظنّ البعض أن أوضاع التونسيّين والتونسيات ستتغيّر بعد هذا الموعد وأن الخير “سينزل عليهم” بعد أن يكون سعيّد ثبّت نفسه في الحكم، لكن الواقع غير ذلك تماما، بل على نقيضه، ذلك أن قيس سعيّد عمل طيلة سنوات حكمه الماضية على تركيز مشروع فردي، شعبويّ، تسلّطي، معاد للعمال والكادحين والفقراء، وستكون الانتخابات الرّئاسية يوم 6 أكتوبر القادم آخر فصل من فصول تركيز هذا المشروع. وهو ما ينبئ أنّ ما بعد هذا الموعد ستكون أوضاع البلاد كما أوضاع الشعب حرجة وصعبة.
ولكن دعنا قبل ذلك، نركّز على المناخ الذي تجرى فيه هذه الانتخابات حتى نفهم مآلاتها بل حتى لا يكون حكمن مجرّدا.

أوضاع سياسيّة منخرمة

لا أحد يمكن أن ينكر أنّ المرسوم 54 هو “بطل” المرحلة بامتياز. فقد طالت عصاه أطيافا واسعة من التونسيّات والتونسييّن طيلة السنوات التي تلت انقلاب 25 جويلية 2021، فلم يسلم منه السياسيّون ولا النقابيوّن ولا الإعلاميون ولا المدوّنون ولا المواطنون العاديون. وقد تمّ تحت طائلته توجيه استدعاءات للعشرات كان مآل العديد منهم الاعتقال بينما يخضع أضعاف ذلك العدد للهرسلة والتهديد المستمر. يضاف إلى ذلك “تشغيل” قانون الإرهاب والتآمر على أمن الدولة لإسكات معارضي الانقلاب وسدّ الطريق خاصة أمام كل من تحدثه نفسه الترشح لمنافسة سعيد في الرئاسة.
ومن جهة أخرى فقد أحكم سعيّد قبضته على كل مؤسسات الحكم (برلمان، قضاء، مؤسسة عسكرية وأمنية…) وحوّلها من سلطات وأجهزة يفترض “حيادها” إلى وظائف وأجهزة تأتمر بأوامره وتخضع لتعليماته. كما أنه صفى أو فكّك الهيئات الرقابية والتعديلية. وفي هذا السياق حوّل هيئة الانتخابات إلى جهاز طيّع بيده. وبالإضافة إلى ذلك فقد ضيّق الخناق على الأحزاب والجمعيات والمنظمات، عبر تلفيق التّهم تحت طائلة المرسوم المذكور، أو عبر إطلاق العنان لأنصار “المشروع” بالتهجّم على النشطاء وقيادات المنظمات والأحزاب وسحلهم في الفضاء الاجتماعي والمنابر الإعلامية التي أصبحت أبواقا لدعاته ومناصريه ومفسّريه.
وبالتوازي مع ذلك فقد أغلق قيس سعيد أبواب التفاوض والنقاش والحوار مع كل المكونات المدنية والسياسية والنقابية، حتى أنّ اتفاقيات عديدة عقدتها حكومته مع الطّرف النقابي في أوقات معيّنة، تمّ الانقلاب عليها وتجاهلها الواحدة تلو الأخرى بعد أن استوت له الأمور وبسط نفوذه على كل السلطات.
وفي المجمل فإن سعيّد أصبح يستند في تسيير البلاد إلى الدستور الذي صاغه بنفسه ولنفسه والذي “يشرّع” له التحكّم في كل شيء دون محاسبة ولا مراقبة.

أوضاع اقتصادية متأزّمة

يمكن الجزم أنّ تونس تعرف أوضاعا اقتصادية هي الأسوأ منذ عقود، فكل “الأضواء الحمراء” تشتعل، والرّكود في أقصى درجاته، وتنعدم كلّ مظاهر الاستثمار أو الحركية الاقتصاديّة، ولا حديث مطلقا عن مشاريع أو عن استثمارات. فنسبة النموّ تقارب الصّفر تقريبا ومنظومات الإنتاج جميعها معطّلة، وهو ما أثّر في الاستهلاك المعاشي الأساسي فأصبح همّ التونسي البحث اليومي عن المواد الأساسية، فبعضها انعدم وجودها تماما في المحلات التجارية، وبعضها الآخر تضاعفت أسعاره والبعض المتبقّي يُباع “خلسة” بسبب غياب المراقبة لمسالك الترويج والتوزيع.
وبلغت نسبة التّداين مستوى خطيرا، فخدمة الدّين وحده بلغت 7.5 مليار دينار الشهر الماضي، وحسب بعض المحللين فإن ذلك يعود إلى ازدياد حجم التداين منذ جائحة كورونا وارتفاع أسعار الفائدة العالمية وانهيار الدّينار أمام العملات الأجنبيّة وهي الظواهر التي لم يفعل سعيّد المتربّع بمفرده على دفّة الحكم منذ ثلاث سنوات أيّ شيء لمواجهتها.
وفيما بلغ إجمالي الدّين الخارجي 100 مليار دينار في عام 2023، فإنه من المتوقّع أن يصل إلى 115 مليار دينار مع نهاية السنة الحالية، ليمثّل قرابة الـ80% من الناتج المحلي الإجمالي وهو ما يؤكّد أن المديونية في ارتفاع وأن “التعويل على الذات” و”حماية السيادة الوطنية” مجرّد كذبة يرددها سعيد وأنصاره للمغالطة ليس إلاّ.

وضع اجتماعي متردّي

طبيعي أن يكون لمناخ الانكماش الاقتصادي والعربدة السياسيّة انعكاسات وخيمة على الأوضاع الاجتماعية العامة. ففي ظلّ الأزمة العميقة والشاملة التي تعيشها البلاد منذ سنوات، والتي أفرزت مؤشّرات، ترتفع نسبة البطالة إلى أكثر من 16.2%، وقد تصل إلى حدود 24% في صفوف حاملي الشهادات، والنسبة ترتفع إلى أكثر من ذلك بكثير بسبب اعتماد المعهد الوطني للإحصاء مقاييس يعلم القاصي والدّاني أنها بعيدة عن الواقع.
وفي ظلّ تواصل معاناة المعطّلين، فقد اضطرّ غالبيتهم إلى الهجرة، إمّا بطريقة غير نظامية، حيث يركب عشرات الآلاف قوارب الموت نحو الضفّة الشمالية للمتوسّط، فيلقى كثير منهم حتفه في مياه البحر ويتكفّل خفر السواحل بالقبض على الناجين الذين تعاد غالبيتهم إلى أرض الانطلاق. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد شهدت هجرة الأدمغة أرقاما غير مسبوقة، إذ تقدّم البلدان المستقطبة ظروف عمل وحياة أفضل، ويتحدّث عميد الأطبّاء أن 80% من الأطبّاء المتخرّجين قد غادروا البلاد في السنوات الأخيرة، بينما يغادر قرابة 6500 مهندسا كلّ سنة حسب عميد المهندسين الذي قال إنّ من بين 90 ألفا المسجّلين في العمادة، غادر حوالي 39 ألفا منهم البلاد في السنوات الأخيرة، وهو يمثلّ “تهديدا حقيقيّا ويؤثّر بشدّة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد واستدامة نموذجها الاقتصادي”، حسب دراسة نشرها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.
أمّا الوجه الآخر للتأزّم المفضوح، فقد بلغت نسبة الفقر في تونس 16.6%، بينما تبلغ نسبة الفقر المدقع حدود 3% (مع تفاوت كبير بين مناطق البلاد والوسطين الحضري والرّيفي). ولا يكفي التونسيّين آفة الفقر، فتحاصرهم أيضا الأمية، التي تشمل حسب وزارة الشؤون الاجتماعية مليوني نسمة بما يعادل حوالي 18 بالمائة. وتبلغ هذه النسبة حوالي 25 بالمائة في صفوف النساء في كامل أنحاء البلاد وترتفع إلى 50 بالمائة في بعض المناطق الداخلية.
وقد انضاف إلى كل ذلك مشكل العطش المستفحل خلال السنوات الأخيرة والذي بلغ ذروته هذا العام لا بسبب الجفاف في حد ذاته وإنما لغياب سياسة مائية تأخذ بعين الاعتبار التغيرات المناخية. إن جواب سعيد على هذه المعضلة لا يتجاوز تغيير بعض المسؤولين واتهامهم بالتآمر عليه: “الماء موجود وهوما يقصو فيه”.

فقر، جوع، عطش، مرض، أمية، مديونية، تلك هي أهم خصائص الوضع في بلادنا في ظل جمهورية قيس سعيد “الجديدة”.

دبلوماسية فاشلة وتابعة

لا يمكن أن تكون الأوضاع متعفّنة إلى هذه الدرجة والدبلوماسية التونسية على “حال أفضل”. يعلم الجميع أن تونس منخرطة في لعبة المحاور، الإقليمية أساسا. وهذا ليس جديدا، فقد اكتوت البلاد بناره طيلة حكم الترويكا وما بعدها. فالبعض يرقص مع قطر وتركيا والبعض الآخر يرقص مع السعودية ومصر والإمارات الخ… وألقت الصراعات في المشرق بظلالها علينا بشكل حاد. وإلى اليوم، لم تنجُ تونس من مخالب هذه التحالفات التي تخدم هي نفسها أجندات غربية وصهيونية بالوكالة في المنطقة.
ولم تنفع كلّ ادّعاءات “السيادة” في طمس الوضع الخارجي المهترئ لبلادنا في ظل حكم سعيّد. فالبلاد أصبحت تتسوّل الإعانات شرقا وغربا، والخناق يضيق عليها أكثر فأكثر نتيجة التصريحات الدونكيشوتيّة للرجل التي لا يستقر على موقف ناهيك أنه تسبّب في وصم بلادنا بالعنصرية نتيجة اتهامه المهاجرين غير النظاميين القادمين من جنوب الصحراء بمحاولة “تغيير التركيبة الديمغرافية لتونس” و”طمس هويتها العربية والإسلامية الخ…

انحطاط قيمي وأخلاقي غير مسبوق

ماذا نتوقّع أن تكون حالة مجتمعنا في وضع كهذا؟ الأكيد والثابت أن الإجرام والانحراف بمختلف أشكاله (مخدرات، بغاء…) سيتعاظمان، وأن الانحطاط وانفلات القيم سيكون سيّد الموقف، وسيهيمن سلوك “تدبير الرّاس” و”أخطى راسي واضرب” وتنتشر ثقافة التفاهة والكراهيّة وخطاب التخوين والتّفتين، محلّ التضامن والتّآزر والعقلانيّة والعمل والوحدة بين مكونات أبناء الشعب وبناته… وطبيعي أن تتابع عبر الشّاشات ومنابر الإذاعات وخاصة في الفضاء الاجتماعي دعوات لسحل المعارضين والمشككين في إنجازات العلوّ الشاهق (وهي إنجازات فقط في ذهن أصحابها).
وفي غياب الحجج الملموسة التي وجب أن يدافع بها النظام عن “شرعيته” و”أهليّته” المزعومتين، فإنه يلتجئ إلى سياسة التخوين من جهة وصنع “الأتباع” الطيّعين، بل صنع “القوّادة” أصلا من جهة ثانية. وحول هذه الآفة، آفة الانحدار والتردّي الأخلاقي والقيمي، يصحّ ما قاله عبد الرحمان الكواكبي منذ أكثر من قرن في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” من أنّ “الاستبداد ليس فقط يُضعف أخلاق الشعوب الحسنة أو يُفسدها، بل يمحوها”.

ختاما

إنّ أوضاعا كالتي نعيشها راهنا، والتي ستجري فيها انتخابات على مقاس مرشّح واحد وحيد، يكون فيها الفوز لصالحه أو سيكون “الفناء”، في هكذا مناخ متأزّم ومتعفّن تنعدم فيه شروط التعايش المدني الدّنيا، تكون المشاركة في سابق وهمي وزائف من قبيل المشاركة في جريمة لن يغفرها التاريخ. فإلى المقاطعة النشيطة من أجل عزل سلطة الانقلاب والمراكمة من أجل إسقاطها.

إلى الأعلى
×