الرئيسية / صوت المرأة / النّساء التّونسيّات 68 سنة بعد صدور مجلة الأحوال الشّخصيّة: سلطة الانقلاب تلتف على مكاسب النّساء وتعمّق آلامهنّ
النّساء التّونسيّات 68 سنة بعد صدور مجلة الأحوال الشّخصيّة: سلطة الانقلاب تلتف على مكاسب النّساء وتعمّق آلامهنّ

النّساء التّونسيّات 68 سنة بعد صدور مجلة الأحوال الشّخصيّة: سلطة الانقلاب تلتف على مكاسب النّساء وتعمّق آلامهنّ

بقلم مديحة جمال

إنّ المسلّمة البديهيّة في المخيال العربي أنّ تونس “بلد حقوق المرأة وحرياتها”، لكنّ واقع المرأة التّونسيّة يضع هذه المسلّمة قيد الدّحض والنّفي، لا باعتبار الفجوة القانونيّة الكبيرة القائمة في أحيان كثيرة بين النّصّ القانوني وواقع تطبيقه، وإنّما أيضا باعتبار التراجع الحاصل حتى فيما تحقّق من مكاسب، ومحاولات الالتفاف عليها خاصة اليوم بعد أن استحوذت الشعبوية اليمينية المتطرفة والمحافظة على الحكم بالكامل منذ انقلاب 25 جويلية 2021. إنّ سلطة الانقلاب تسعى سعيا محموما إلى تصفية مكاسب ثورة 2010-2011 في مجال الحقوق والحريات ومنها مكاسب النساء اللواتي شاركن في الثورة بشكل فعّال يدفعهنّ الطموح إلى كسب حقوقهنّ وتحقيق مساواة تامة وفعلية هنّ جديرات بها.
إنّ السّمة البارزة لوضع النساء في هذه الذكرى الـ68 لصدور مجلة الأحوال الشخصية هو بالفعل ما يتهدّد مكاسبهن، على محدوديّتها، من خطر الانتكاس على يد سلطة الانقلاب. وهو ما يجعلنا في هذه المناسبة ندقّ ناقوس الخطر وندعو نساء تونس التائقات إلى الحريّة من عاملات وكادحات وموظّفات ومثقّفات ومبدعات وطالبات و”ربّات بيوت” ومعطّلات عن العمل كما ندعو قوى المجتمع الحية والتقدميّة التي تؤمن ألّا نهوض لتونس في أيّ مجال من المجالات دون مساهمة نسائها المتمتّعات بحريتهن وحقوقهن إلى التعبئة ضدّ الاستبداد الجديد دفاعا عن مكاسبهنّ وتطويرها على طريق تحقيق المساواة التامّة والفعليّة. وفي هذا السياق من المهمّ أن نرصد وضع نساء تونس اليوم ونحدّد المخاطر التي تتهدّدهنّ ونرسم طريق مواجهتها.

ضرب مبدأ المساواة تحت غطاء تحقيق “العدل”

بعد انقلاب 25 جويلية مباشرة اجتمع قيس سعيّد بالعديد من الجمعيات والمنظمات والأحزاب في محاولة لتلميع صورة الانقلاب وتقديمه على أنه “المنطلق” لمعركة “التّحرّر الوطني” التي تهدف إلى التخلّص “من مشهد سياسي متعفّن، لا وطني” وتعبيد الطريق نحو تكريس “إرادة الشّعب”. ولكن ما إن أثارت ممثّلة إحدى المنظمات المشاركة في الاجتماع مسألة المساواة حتى انكشف الخلاف بل الخداع في خطاب سعيّد الشعبوي. فهو لم يُخف أنّه يرفض المساواة مدّعيا أنها “شكلية” ويتظاهر بتعويضها بـمبدأ “أصحّ” وهو “العدل”. وقد غاب عنه أنّ المساواة هي الأصل لأنّ العدل لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بين كائنين متساويين في الحقوق. وهذه الطريقة الخبيثة لإخفاء التّمييز بين الجنسين هي نفسها التي استعملتها حركة النهضة عند مناقشة دستور 2014 إذ دعت إلى تعويض مبدأ “المساواة” بـ”التكامل” بين المرأة والرجل ومن البديهي أنّ “التكامل” ليس المساواة وإنما هو أن يتقاسم الرجل والمرأة الأدوار، الأول كـ”سيد” والثانية كـ”خادمة” له. ولم تتخلّ حركة النهضة عن هذا الموقف إلّا تحت ضغط الشارع والقوى التّقدّميّة والوطنيّة التي أفشلت مناوراتها في أكثر من نقطة.

ترابط الحقوق المدنيّة والسّياسيّة والحقوق الاجتماعيّة

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فعلى درب حركة النهضة أيضا، وهروبا من الاعتراف بالحقوق المدنية والسياسيّة للنساء ومنها المشاركة في إدارة شأن العائلة على قدم المساواة مع الرجل ومنها أيضا المساواة في الميراث، صرّح قيس سعيّد بمناسبة 13 أوت 2020 أنّ “الصراع حول الإرث والميراث هو صراع خاطئ، وأنّ الأجدر هو تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية قبل الحديث عن فقه المواريث”، لافتا إلى أنّ “المساواة كما تمّت بلورتها في الفكر الليبرالي مساواة شكلية لا تقوم على العدل بقدر ما تقوم على الإيهام به”. وقد فات سعيّد في هذا المجال أيضا أنّ الحقوق المدنية والسياسية من جهة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى كلّ لا يتجزّأ ولا يمكن فصلهما بعضا عن بعض ناهيك أنّ المساواة في الميراث هي ذاتها جزء من المساواة في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
أما بخصوص الطابع الشكلي للمساواة في الفكر الليبرالي فهو أمر آخر بل إنّ قيس سعيد مثله مثل كل القوى الرجعية المحافظة يستعمله بطريقة ديماغوجية لضرب مبدأ المساواة في حدّ ذاته. إنّ المساواة الشكلية، القانونية أي الاعتراف بأنّ المرأة والرجل كائنان بشريان متساويان في إنسانيّتهما وبالتالي في حقوقهما يمثل ثورة في تاريخ البشرية قطعت مع اعتبار المرأة كائنا في مرتبة دونية بالنسبة إلى الرجل تُفقدها أهلية التمتع بنفس الحقوق التي يتمتّع بها. ولكن كون هذه المساواة بقيت في المجتمع الرأسمالي شكلية ولم تتنزّل في الواقع لأنّ هذا المجتمع قائم على الفوارق الطبقية، فإنّ ذلك لا ينقص من أهمّيتها كمكسب وهي على شكليّتها تنقل المعركة من مستوى القانون إلى مستوى الواقع، من مستوى المساواة الشكلية إلى مستوى المساواة الفعلية في حين أنّ المجتمعات المتأخّرة اقتصاديّا واجتماعيا وثقافيا مثل معظم المجتمعات العربية ما زال فيها مبدأ المساواة في حدّ ذاته غير معترف به وهو محور نضالات الحركات النسوية.

تراجع في بعض المكتسبات

ولكن لا ينبغي الاعتقاد أنّ تركيز سعيّد على “المساواة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية” يقابله سعي جدّي لتكريس هذه الحقوق في الواقع. لقد استعمل سعيّد “المساواة الاقتصادية والاجتماعية” غطاء للتراجع في بعض مكاسب النساء القانونية في المجالين المدني والسياسي وللتنكّر لحقّهن في إلغاء كافة مظاهر الميز في القوانين السّارية، دون القيام بأيّ خطوة جدّية لتحسين أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية التي زادت سوءا بعد انقلاب 25 جويلية 2021. لقد ألغى قيس سعيد في دستور”جمهوريته الجديدة” الذي لم يشاركه أحد في صياغته وفرضه عقب استفتاء لم يشارك فيه ما لا يقلّ عن 70 بالمائة من الناخبات والناخبين ومنح فيه لنفسه كل السلطات ليصبح “الحاكم بأمره”، مبدأ الدولة المدنية المنصوص عليه في دستور 2014. كما أنه ألغى الفصل 21 من هذا الدستور الّذي يكرّس مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين والمواطنات، ويجعلهم “متساوين أمام القانون من غير تمييز” وظلّ يكرر في طيّاته عبارات “العدل” و”العدالة” و”الإنصاف” الفضفاضة.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ قيس سعيد لئن أكّد في “دستوره” أنّ “الدولة تسعى إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة” فإنه انقلب على هذا “الدستور” حين أصدر قانونا انتخابيا جديدا يفرض فيه نظام الاقتراع على الأفراد بدل القائمات وهو ما فتح الباب لتراجع خطير عن مكاسب القانون الانتخابي السابق الذي كان يشترط التناصف وتمثيل المرأة والشباب في القائمات. لقد ضرب القانون عدد 55 التناصف الأفقي والعمودي، وهو ما أفرز “برلمانا” ذكوريا بامتياز وبالتالي عمّق الهوّة أكثر بين النساء والرجال في مواقع اتخاذ القرار والتشريع. لقد أسفرت نتائج “الانتخابات التشريعية” المهزلة التي نظّمها سعيد في ديسمبر 2022 عن صعود 25 امرأة و129 رجلاً إلى “المجلس”، وبذلك تصبح نسبة النساء في البرلمان 16 في المائة، وهي النسبة الأضعف منذ انتخابات 2011.

تدهور الأوضاع الاجتماعيّة للنّساء

أما بخصوص الوضع الاقتصادي والاجتماعي للنساء في “العهد السعيد” فحدّث ولا حرج. فرغم زيارات سعيّد لبعض الجهات والأحياء المفقّرة في العاصمة والتباكي على الحالة المزرية للنساء العاملات وإطلاق الوعود والخطب المعسولة فقد ظلّ وضع النساء الكادحات والشعبيات على حاله، إن لم يتدهور أكثر. وهو ما يشهد عليه واقعهنّ بعد مُضيّ خمس سنوات من وجود سعيّد في قصر قرطاج منها أكثر من ثلاث سنوات حكم فيها بمفرده بشكل مطلق.
إنّ النساء يمثّلن 80 بالمائة من اليد العاملة في القطاع الفلاحي إلاّ أنّهن يعانين من اضطهاد متواصل لا يتعلّق بظروف عملهنّ وأجورهن البخسة فقط، وإنّما أيضا بالحوادث القاتلة المتكرّرة التي يتعرّضن لها باستمرار دون أن تتّخذ منظومة الحكم أيّة مبادرة لحمايتهنّ. فإلى اليوم لم يفعّل قيس سعيد وحكومته القانون عدد 51 لسنة 2019 الخاص بإحداث صنف نقل للعاملات والعملة بالقطاع الفلاحي. ومن المعلوم أنّ هذا القانون صدر إثر حادث المرور الأليم الذي جدّ في معتمدية السّبالة من ولاية سيدي بوزيد وأودى بحياة 13 عاملة، علاوة على جرح 20 من النساء العاملات في القطاع الفلاحي . وكان من المفروض أن يوفّر ذلك القانون نقلا آمنا يقطع مع مآسي شاحنات الموت لكنه بقي حبرا على ورق لتستمر الحوادث القاتلة. فمنذ صدور القانون تمّ تسجيل أكثر من 33 حادثا تسبب في وفاة 15 عاملة و322 جريح/ة حسب إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية آخرها انقلاب شاحنة يوم 26 جوان 2024 في معتمدية السبيخة من ولاية القيروان أدّى إلى وفاة طفلة تبلغ من العمر 16 عامًا وإصابة 14 عاملة فلاحية بجروح متفاوتة الخطورة.
أمّا على مستوى المساواة في الأجر بين العاملات والعاملين في القطاع الفلاحي فقد صدر بتاريخ 19 أكتوبر 2022 أمر حكومي عدد 768 يقضي بترفيع طفيف في الأجر الأدنى اليومي “المضمون” للعاملات بالقطاع الفلاحي ليبلغ 17.664 دينارا بعد أن كان 16.512 خلال سنة 2021 وهو أيضا قانون ترقيعي لأنّ الدخل الشهري للعاملة لا يتجاوز اليوم 400 دينار في ظلّ غلاء أسعار فاحش وتدهور مفزع للمقدرة الشّرائيّة لم يشهده التونسيات والتونسيون من قبل، زد على ذلك أنّ هذا القانون يرتطم بعدم تطبيقه في كثير من الأحيان لغياب آليات إنفاذه والرقابة على مدى احترامه.
فأين هي العدالة الاجتماعية والاقتصاديّة الّتي يتشدّق بها قيس سعيد في كل مرّة مع العلم أنّ البطالة والفقر والأميّة استفحلت في عهده في صفوف النساء بشكل خاص وفق ما تؤكده أرقام المعهد الوطني للإحصاء.

استشراء أعمال العنف والقتل ضد النساء

على صعيد آخر تواصلت منذ بداية هذه السنة مظاهر العنف المسلط على النساء وبالخصوص في شكله الأشنع المتمثل في القتل. فقد بلغ عدد الجرائم التي ذهب ضحيتها نساء منذ بداية 2024 ثماني حالات (حسب ما رصدته جمعية أصوات نساء وجمعية المرأة والمواطنة بالكاف إلى حدود 17 جوان 2024) آخرها الجريمة التي جدّت يوم 17 جوان 2024 والتي قتلت فيها “انتظار” الأم لطفلين ذبحا على يد زوجها. كما جدّت جريمتان في نفس اليوم (29 جوان 2024) تمثلت الأولى في حرق رجل زوجته بسكب البنزين عليها مما تسبب لها بحروق بنسبة 80% بمنطقة سيدي عيش- قفصة وتمثلت الثانية في دهس امرأة ووالدتها بواسطة سيارة يقودها طليقها في منطقة وادي الليل. وتؤشّر هذه الجرائم إلى تواصل ارتفاع جرائم قتل النساء التي سجلت مستويات مفزعة في السنة المنقضية، 2023، إذ بلغ عددها 25 حالة.
إنّ هذا الارتفاع غير المسبوق لهذا الصنف من الجرائم هو نتيجة لغياب الإرادة السياسيّة في توفير الآليات الضرورية لتطبيق القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة علاوة على المناخ العام الاجتماعي والسياسي المتوتّر والمشحون بالكراهية بما في ذلك الكراهية ضد النساء. ويشارك قيس سعيد في تغذية هذا المناخ بخطابه الشّعبوي الرجعي تجاه النّساء. فما من شكّ في أنّ الجميع يتذكر اتهام قيس سعيد علنا وباطلا قاضيتين من بين القضاة الـ57 الذين شملهم الإعفاء بالزنا وهو ما فتح الباب لسحلهما على شبكة التواصل الاجتماعي ورغم تبرئة المحكمة لهما فإنه لم يعتذر أمام الرأي العام، وهو دليل على انتهاج أعلى مؤسسة في الدولة خطاب الوصم الاجتماعي والأخلاقي والتشهير بجوانب تتعلق بالحياة الخاصة للأفراد ولو باطلا لتشويههم ممّا يفتح الباب أمام الإقصاء الاجتماعي، ويبيح الحملات الممنهجة للعنف الرمزي والتشهير بالنساء بصفتهن نساء.
إنّ هذا العداء للنّساء يتواصل إلى اليوم بشكل آخر إذ تقبع في سجون قيس سعيّد 8 سجينات نتيجة نهج التشفّي والانتقام من النّاشطات السّياسيّات المعارضات ومن الإعلاميات منتقدات سلطة الانقلاب أو من بعض مسؤولات جمعياتية يدفعن ثمن الحملة العنصرية على الجنوب صحراويات ولا يتمتّعن بشروط المحاكمة العادلة فيما وُجّه إليهنّ من تهم. وهنّ يقبعن في ظروف سجنيّة مهينة للكرامة الإنسانيّة حسب تصريحات عائلاتهنّ وتقارير الرابطة التونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان.
خاتمة
إنّ ما عرضناه يمثل بعض المظاهر ممّا تتعرض له النساء اليوم تحت حكم قيس سعيد الشعبوي الاستبدادي. إنّ بلادنا تمرّ بفترة تراجع كبير لمكتسبات النساء التي جاءت نتيجة نضالات كثيرة وتضحيات كبيرة. وهو ما زاد من هشاشة وضعهنّ. ولا شك في أنه لا أمل في تحسّن هذا الوضع مع استمرار حكم قيس سعيد الفردي المطلق والمحافظ الذي يخدم مصالح الأقليات الرجعية في الداخل والدول والشركات والمؤسسات المالية الرأسمالية الاستعمارية في الخارج. ولا حل بالنسبة إلى نساء تونس إلّا في العودة إلى النضال بقوة دفاعا عن حقوقهنّ من جهة وإسهاما منهنّ في خلق ديناميكة تؤدي إلى إسقاط سلطة الانقلاب وتحقيق ما رفعته ثورة 2010-2011 من مطالب:”شغل حرية كرامة وطنية” من جهة ثانية. وما من شك في أنّ أولى المهام التي تطرح اليوم على نساء تونس وطلائعهن الثورية والديمقراطية تتمثل في مقاطعة مهزلة 6 أكتوبر 2024 الانتخابية التي يريدها قيس سعيد وسيلة لإضفاء شرعية زائفة على انقلابه وتصعيد هجومه على الحريات والحقوق وفي مقدمها حقوق النساء اللواتي يمثلن دائما الضحية الأكبر لكل دكتاتورية.

  • لندافع عن مكاسبنا
  • تسقط الدكتاتورية الشعبوية عدوة الحرية والمساواة
  • لنقاطع المهزلة الانتخابية
إلى الأعلى
×