الرئيسية / صوت الوطن / قيس سعيد وإعادة تدوير الوهم الشعبوي قبيل الانتخابات
قيس سعيد وإعادة تدوير الوهم الشعبوي قبيل الانتخابات

قيس سعيد وإعادة تدوير الوهم الشعبوي قبيل الانتخابات

بقلم حبيب الزمّوري

كانت السنوات الثلاث من الحكم الفردي المطلق لقيس سعيد أكثر من كافية كي ينقشع جزء كبير من الأوهام التي بنى بها قيس سعيد شعبيته قبل 2019 وكرّس بواسطتها انفراده بالحكم بعد انقلاب جويلية 2021. لقد بنى قيس سعيد شخصيته السياسية منذ بداية ظهوره على وسائل الإعلام سنة 2011 على مهاجمة النظام القائم بلا هوادة وهدم كل المقاربات والأطروحات التي حاولت طرح بديل عن المنظومة النوفمبرية ولم يميّز هجومه بين القوى التي تمكنت من الارتقاء إلى سدة الحكم والقوى المعارضة، لقد كان كل همّه تهرئة كل القوى السياسية والمدنية دون طرح بديل عنها مساهما بذلك في تدمير مجال النضال السياسي والمدني السلمي مغذيا مشاعر الإحباط والنقمة من الثورة وإمكانية التغيير الثوري التي تمكنت من التونسيات والتونسيين. هذا بطبيعة الحال دون أن نتحدث عن شخصيته السياسية والمدنية قبل 2011 التي أصبحت معروفة لدى القاصي والداني والتي لا تحتوي على مثقال ذرة نضالية ضد الاستبداد النوفمبري، بل إنه كان عضوا من الطابور الدستوري الخامس لسدّة السلطة النوفمبرية الذي كان يشتغل تحت إشراف الصادق شعبان وغيره من منظري الديكتاتورية النوفمبرية.
لقد جنى قيس سعيد سنة 2019 ثمار اليأس والإحباط الذي خيّم على المجتمع التونسي، نتيجة الانحراف الذي أصاب المسار الثوري والالتفاف على مطالبه التي أعلنها بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 وما تلاها من تحركات، مبشّرا التونسيين والتونسيات بتصحيح مسار الثورة وبحرب مقدسة لا هوادة فيها ضدّ الفساد السياسي والاقتصادي وبالرخاء والعدالة التي تنتظرهم عند المنعطف الأول من الطريق الذي فتحه أمامهم، مكتفيا بالشعارات الفضفاضة والجمل الثورية الرنانة والتفخيم اللغوي الذي أثار إعجاب العديد من التونسيات والتونسيين لسنوات إلى درجة أنه أصبح نجما من نجوم البرامج التلفزية ونشرات الأخبار، متجنبا طيلة هذا المسار طرح برنامج مفصل والالتزام بتحقيقه، بل إن بعض إجاباته تثير الاستغراب والتساؤل عن مدى جدية وعقلانية المشروع السياسي الذي يبشّر به ويدافع عنه أنصاره مثل تصريحه يوم الجمعة 13 سبتمبر 2019 بمدينة الجم بأنه “لا يملك برنامجا انتخابيا يسوّق للأوهام والأحلام الكاذبة والوعود الزائفة” معتبرا أن “البرامج الانتخابية التي طرحها المترشحون منذ 2011 لا تزال في مرتبة الوعود ولم تطبّق فعليا، لذلك لم يجن الشعب إلا الأوهام”. فإذا كان الشعب لم يجن سوى الأوهام منذ 2011 فماذا جنى منذ 2019 وخاصة منذ 2021 عندما أصبح متحكما في جميع مفاصل الحكم والقرار؟
إذا تميّز قيس سعيد بشيء منذ انفراده بالحكم فإنه تميّز بقدرته الفائقة على التهرّب من المسؤولية عن تداعيات حكمه على الحياة اليومية للتونسيات والتونسيين وتحميل وزر الإخفاقات ومواصلة التدمير الممنهج للخدمات الأساسية الموجهة لعموم الشعب التونسي من صحة وتعليم ونقل ومواد أساسية لأطراف وعصابات ولوبيات لم يمتلك منذ 2021 جرأة إماطة اللثام عن وجهها أمام الشعب التونسي وكشف حقيقتها، بل واصل استعمالها كفزاعة لتبرير الاعتداءات المتنامية على الحريات العامة والفردية رغم أن هذا التبرير أصبح محل تندّر وسخرية من غالبية المتابعين للشأن العام. فالدولة المتحكمة في توريد وتوزيع عدة مواد أساسية والمتحكمة في شبكة استغلال وتوزيع المياه يتّهم رئيسها أطرافا ولوبيات بالمسؤولية عن النقص الفادح في تلك المواد والانقطاع المتكرر والمستمر للمياه الصالحة للشرب. فإمّا أنّ هذه العصابات تشتغل داخل دواليب الدولة ولا قدرة لقيس سعيد وأجهزته عن مواجهتها، رغم مرور ثلاث سنوات على إطلاق حربه المقدسة ضد الفساد الذي ينخر دواليب الدولة، أو أن ما يحدث من فقدان للمواد الأساسية وانهيار للخدمات الاجتماعية هو نتيجة مباشرة لسياسات قيس سعيد ولكنه لا يجرؤ على الاعتراف بها، ولكنه ينفذها عبر رؤساء الحكومة والوزراء الذين يعيّنهم ويعزلهم دون سابق إنذار فقط لامتصاص تنامي الغضب الشعبي وللإيهام بأنهم ينفذون سياسات مغايرة لتوصيات وأوامر صاحب الحكم. والغريب في الأمر أن هذه الحيلة تنطلي حتى على المنغمسين في الشأن العام من الأحزاب والمنظمات المناصرة للمشروع السياسي لقيس سعيد التي ما فتئت تصدر البيانات والالتماسات لرئيس الدولة للضغط على حكومته كي تكون وفية لتوجهاته ومشروعه.
يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع وشهرا بعد شهر يتأكد التونسيات والتونسيون عبر تجربتهم الواقعية وكفاحهم اليومي مع الحياة أن قيس سعيد بنى مشروعه الشعبوي على الأوهام واختلاق الصراعات والحروب الوهمية التي لا علاقة لها بالاستحقاقات الشعبية وأن الأوهام الشعبوية تتجاوز في خطورتها كافة الأوهام الانتخابية السابقة التي أشار إليها قيس سعيد نفسه، حيث كان التونسيون والتونسيات وقتها يمتلكون السلاح الضروري لمواجهة الأوهام في الشارع بالتحركات الشعبية السلمية وبحرية التعبير لكنهم اليوم يجدون أنفسهم شيئا فشيئا مجردين من سلاح الحرية الذي افتكوه بالدم والعرق والتضحيات على مدى عقود، حيث حرصت الشعبوية على إعادة شبح الخوف واليأس من النضال السياسي والنقابي والمدني ببلادنا عبر رجم كل معارض أو محتجّ بتهم الخيانة العظمى والتخريب والتواطؤ مع الأجانب وغيرها من التهم الجاهزة والخطيرة التي تكفي في ظل غياب الأدلة بالزج بصاحبها في غياهب السجون.
رغم بداية انقشاع أوهام الشعبوية في بلادنا فإن قيس سعيد يحاول إحياءها قبيل الانتخابات الرئاسية عبر إعادة قرع نفس طبول الحرب المقدسة الوهمية واختلاق المعارك والفزاعات الوهمية لتجنب مواجهة الاستحقاقات والصراعات الحقيقية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية والديموقراطية المنتهكة بواسطة السياسات المتبعة منذ عقود والتي استأنف قيس سعيد تطبيقها بأكثر شراسة تحت حماية أجهزة الدولة الكمبرادورية التي لم تتوقف منذ 2011 عن العمل على إغلاق قوس الثورة وقطعت مع قيس سعيد أشواطا في هذا المسار تحت غطاء الشعارات الثورية الرنانة التي تخفي أشد الممارسات رجعية وعدائية للشعب.
وهم آخر لا بدّ من انقشاعه ألا وهو إمكانية إسقاط المشروع الشعبوي في بلادنا بقواعد وقوانين من وضعه حرصا كل الحرص على غلق كل المنافذ القانونية والدستورية لإمكانية إسقاطه، فما اغتُصِب بالانقلاب على القوانين وعلى الدستور لا يستردّ إلا بالنضال والإمعان في النضال في صفوف الشعب ولنا في تجربة الاستبداد النوفمبري خير عبرة مهما كانت درجة اليأس والإحباط ومهما كانت درجة انحسار المدّ الثوري فما الثورة إلا صبر ساعة في تاريخ الأمم والشعوب.

إلى الأعلى
×