الرئيسية / صوت الوطن / سردية “التعويل على الذات” بين الخطاب الرسمي وعناد الواقع
سردية “التعويل على الذات” بين الخطاب الرسمي وعناد الواقع

سردية “التعويل على الذات” بين الخطاب الرسمي وعناد الواقع

بقلم مرتضى العبيدي

ونحن نقترب من موعد الانتخابات الرئاسية، فمن الطبيعي أن تتداول الصحافة ووسائل الإعلام بمختلف محاملهاـ وإن كان بحذر شديد ـ في تقييم العهدة الرئاسية المنتهية. ومن المفروض أن تكون هذه التقييمات القاعدة الموضوعية التي يبني عليها المواطنون/الناخبون موقفهم من حيث منح الثقة مجددا للحاكم المنتهية عهدته أو اختيار غيره، إن كان لهم مجال للاختيار. خاصة لمّا يكون حاكم البلاد هو المسؤول الأوحد على حصيلة العهدة بما خوّله لنفسه من صلاحيات لم تتوفر لملوك الإنس والجان من قبله، همّش بمقتضاها الجميع -خاصّة “أعضاده” المقرّبين ـ في كل المستويات والمجالات ونزع عليهم إمكانية المبادرة أو الاجتهاد في اتخاذ أي قرار في مجالات “اختصاصاتهم” التي لا يحدّدها غيره. فيكون من الحيف أن تُحاسب أيّ مسؤول ـ وال كان أو وزيراـ على صنيع ما، وهو لم يكن غير منفّذ أمين لأوامر السلطة العليا.

الخطاب السيادي وشعار التعويل على الذات

وفي هذا الصدد، لم يغب عن المراقبين بروز وانتشار معجم سياسي جديد يتفنّن في صياغته صاحب الشأن وتردّده الجوقة بمناسبة وبغيرها. فمنذ انقلاب 25 جويلية 2021 أصبحت الكلمة العليا للشعارات السيادية مثل: “لا رجوع إلى الوراء”، “التعويل على الذات”، “لا للارتهان للأجانب”، “نرفض الخضوع لصندوق النقد الدولي وإملاءاته”، “نحن نخوض حرب تحرير وطني”. لكن ما الذي تحقق على أرض الواقع لجعل هذه الشعارات حقيقة أو على الأقل لوضع البلاد على السكّة المؤدية إليها؟
وقد كان الاحتفال بـذكرى 25 جويلية (ولا نعلم أيّ منهما: 1957 أو 2021) مناسبة تطرق فيها رئيس الدولة إلى منجزات عهدته، فأكد “أن تونس حققت وبناء على اختياراتها الوطنية واختيارات شعبها نتائج أفضل بكثير ممّا كانت عليه في السابق بفضل التعويل على الذات ورفض أيّ وصفات من الخارج ومن مؤسسات اعتقدت أنها وصية على تونس”. وذكر فيما ذكر “أنه تمت السيطرة على نسبة التضخّم وحقق الميزان التجاري في المجال الغذائي فائضا إيجابيا إلى حدود أواخر شهر جوان الماضي، وارتفع المحصول الوطني من العملة الأجنبية إلى 113 يوما ومرشّح إلى مزيد الارتفاع”.
فهل يمكن لمقولة «التعويل على الذات» هذه أن تصمد أمام عناد الواقع كما تثبته جملة الحقائق الموثقة رسميا، في جداول الميزانيات للسنوات الخمسة الأخيرة، في قوانين المالية، في المراسيم ذات الصلة التي وقّعها رئيس الجمهورية وفي أشغال مجلس النواب المتعلقة بالقروض التي لم تتوقف يوما، وجميعها منشور في الرائد الرسمي للبلاد التونسية؟ وهل أن قطع التفاوض مع صندوق النقد الدولي أوقف التداين الخارجي وفتح الأبواب أمام التعويل على الموارد الذاتية؟

هل قطعت تونس فعليا مع صندوق النقد الدولي؟

هل انسحبت تونس من صندوق النقد الدولي؟ هل جمّدت عضويتها فيه؟ هل كفت عن دفع مساهماتها في الاكتتاب في رأس ماله؟
طبعا لا. فوفق تقارير مراقبي حسابات البنك المركزي، فبعد واقعة قرض الـ1.9 مليار دولار، واصلت الدولة التونسية دفع أقساط اكتتابها في رأس المال لهذه المؤسسة التي بلغت سنة 2023 ما يقارب 2240 مليون دينار أو 2.24 مليار دينار مقسّمة بين 423.4 مليون (اكتتاب بالدينار) و121.8 مليون (اكتتاب بالعملة القابلة للتحويل)، حسب ما أوضحه الخبير الاقتصادي آرام بلحاج. وأضاف بأنّ الدولة التونسية تدفع مبالغ طائلة أخرى في إطار الاكتتاب في رؤوس أموال مؤسسات مالية أخرى، والتي لها علاقات متينة معها منذ إحداث البنك المركزي التونسي. يعني أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد سوء تفاهم ظرفي مع الصندوق، وهو زائل لا محالة.

ثمّ هل أن تعليق التعامل المباشر مع الصندوق خلّص البلاد فعلا من إملاءاته المدمّرة؟

كلاّ. فالسياسات الاقتصادية هي نفسها والميزانيات المعتمدة سنويا هي نسخ مطابقة للأصل لا من ميزانيات ما قبل 25 جويلية فحسب بل من ميزانيات ما قبل 14 جانفي. يكفي أن ننظر إلى باب وقف الانتداب في الوظيفة العمومية المطلوب من صندوق النقد الدولي والسائر المفعول منذ سنوات عدّة، حتى أنه جعل وزيرة التربية المقالة عاجزة على تطبيق أمر رئيسها بانتداب جميع المدرّسين النواب الخاضعين للتشغيل الهش الذي اعتبره الرئيس نفسه شكلا من أشكال العبودية. ونفس الإملاءات هي التي أجبرت قيس سعيد على التراجع على قانون أمضاه بنفسه، القانون 38 والمتعلق بتشغيل من طالت بطالتهم، وهو الذي كان رؤوفا حليما بالفقراء والمساكين وبالمعطلين منهم بالخصوص. فهل مثل هذه القرار الموجع اتخذ بشكل سيادي أو هو مواصلة لتطبيق إملاءات الصندوق؟

وهل أن تعليق التفاوض مع الصندوق أوقف التداين الخارجي وفتح الأبواب أمام التعويل على الموارد الذاتية؟

كلاّ. إذ أن قطع “التعامل” مع الصندوق لم يمنع السلطة القائمة من مواصلة التعامل مع أذرعه المبثوثة في كل القارات. يكفي أن نلقي نظرة على اتفاقيات القروض الموقعة مع هذه المؤسسات المالية خلال السنتين الأخيرتين حتى نتبيّن زيف الشعارات المرفوعة.
فقد وقعت الحكومات المتعاقبة اتفاقيات قروض مع مؤسسات مالية دولية منها:
البنك الدولي: 740 مليون دولار لتمويل الأمن الغذائي والتقليص من التفاوت الجهوي
المؤسسة الألمانية للقروض: 5.125 مليون يورو
الوكالة الفرنسية للتنمية: 50 مليون يورو
البنك الأوروبي للاستثمار: 380 مليون يورو
البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية: 150 مليون يورو
المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة: 370.1 مليون دولار
الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي: 52،295 مليون دولار
البنك الإفريقي للتنمية: 9.98 مليون دولار
ومع عدة دول منها:
إيطاليا: 105 مليون يورو
كوريا الجنوبية: 60 مليون دولار
الجزائر: 300 مليون دينار
وقبل ذلك، أي خلال سنتي 2021 و2022، وفي تناقض صارخ مع خطاب التعويل على الذات، وقبل تنصيب البرلمان الجديد، صادق قيس سعيد بأوامر رئاسية على قروض جملية بقيمة 1335 مليار دولار. والجميع يعلم أن كل هذه الهيئات، مؤسسات مالية، أو دول، ما كان لها أن تسند قروضا لتونس، دون موافقة صندوق النقد الدولي صاحب السطوة والجاه عليها جميعا. فأين نحن من شعارات السيادة الوطنية والتعويل على الذات وحرب التحرير؟
بقي أن نشير في النهاية إلى وجه آخر من أوجه المسألة والذي يتباهي به أنصار الرئيس ويقدّمونه على أنه شكل من أشكال التعويل على الذات، ألا وهو الاقتراض الداخلي، أي اقتراض الدولة من البنك المركزي ومن البنوك المحلية.
فما هو موقف خبراء الاقتصاد من هذه الطريقة؟ إنهم لا يعتبرون الاقتراض المباشر من البنك المركزي والبنوك المحلية مظهرا حقيقيا للتعويل على الذات، بل هي ـ حسب رأيهم ـ مجرد وسيلة يتمّ استخدامها في ظل غياب رؤية استراتيجية واضحة للشأن الاقتصادي. إذ أن هذا النوع من الاقتراض يؤثر على السيولة التي من المفترض أن تُوجّه للاستثمار وخلق الثروة، وما ينجرّ عن ذلك من تأبيد الأزمة وتعميق للفقر وتفاقم للتضخم المرتفع أصلا. وهكذا فإنها لا تساهم إلا في خلق وهم جديد بالتخلص من الارتهان إلى الخارج وتحدّي عتاة المؤسسات المالية الدولية.

خاتمة

وهكذا يتضح أن هوّة سحيقة تفصل الخطاب الشعبوي السيادي عن الواقع المعيش في دولة العلوّ الشاهق، إذ أن هذه الشعارات لا تجد تجسيدا لها في برامج ملموسة تقوم على القطع الفعلي مع منوال للتنمية اتبعته منظومة الاستعمار الجديد خلال فترات حكمها الثلاثة، ويواصلها اليوم ابنها البار الذي جاء لإنقاذها ولم يجد إلى ذلك سبيلا رغم السلطات المطلقة التي حبا بها نفسه والتي أعادت البلاد إلى مأزق الحكم الفردي المطلق، مأزق الديكتاتورية والفاشية الزاحفة.

إلى الأعلى
×