الرئيسية / صوت الوطن / رسالة الشباب إلى سعيد: %6 فقط
رسالة الشباب إلى سعيد: %6 فقط

رسالة الشباب إلى سعيد: %6 فقط

بقلم جابر بن سليمان

قبيل أيام من موعد الانتخابات الرئاسية انتشرت على صفحات الفيس بوك صورة لإصبع، إصبع شابة تونسية، إصبع أثار هستيريا فيسبوكية غير مسبوقة، نُصبت المحاكم على هذا الإصبع، نُشرت المقالات والتحاليل على هذا الإصبع، بل لم تنته إلا باعتقال صاحبة الإصبع. وصدقا لم يكن هناك عيب في إصبع الشابة كان نظيفا نزيها عيبه أنه كان صاخبا، غاضبا، ثائرا بين عيني قيس سعيد الجامد على الحائط فوق برنامجه الانتخابي الذي لا يحمل في طيّاته سوى الوعيد.
صباح يوم الأحد وفي السادس من أكتوبر تكرّر نفس المشهد صور للإصبع مرة أخرى تنتشر بين صفحات الفايسبوك ولكن هذه المرّة لا أحد ينصب المحاكم الفايسبوكية على الإصبع، بل من ازدرى في الأيام السابقة رسالة إصبع الشابة آمن بإصبعه في السادس من أكتوبر، من ازدرى الإصبع النظيف النزيه آمن بإصبع ملطّخ بالحبر الأزرق. هي فقط سويعات قليلة حتى أصبح كل الفضاء الاجتماعي ملطخا بالحبر الانتخابي الأزرق وتحوّل هدوء يوم الأحد إلى “يوم أزرق” زرقة اللون وحتى الحال كما نصف بالعامية.
هي فقط لحظات حتى بدأ الشباب التونسي يستوعب صباحه “الأزرق” بيوم انتخابات صفراء، حيث بدت الانتخابات وكأنها مسرحية هزلية بلا جمهور أو بالأحرى بلا روح، روح هذا الشباب الذي يمثّل الشريحة الأكبر من المجتمع، بل من يحرك عجلة المجتمع.
وكغيرها من الانتخابات السابقة كانت الصورة مألوفة في مراكز الاقتراع غياب للشباب وحضور للمتقدمين في السنّ، وفضلا عن أنها لم تشهد حتى نسبة إقبال عامة محترمة فإنها كذلك عرفت نسبة عزوف مهمة للشباب. قد يبدو في تحاليل هذا العزوف الشبابي في الإقبال على الانتخابات تقليد من تقاليد الحياة السياسية في تونس، لا فقط بعد 14 جانفي بل حتى قبله، ولكن هذه المرّة غياب الشباب ليس تقليدا كما قد يروّج له البعض بل هو موقف ورسالة واضحة إلى المنظومة الحاكمة وإلى قيس سعيد خاصة، رسالة لوّح بها الشباب التونسي في وجه قيس سعيد في مرة ثانية بعد أن تجاهل الرسالة الأولى.

قيس سعيد.. من رمز الأمل إلى خيبة الأمل..

لا ريب أنّ كل المنظومات التي مسكت زمام السلطة في تونس لم تتوان في النّيل من أحلام وتطلعات الشباب، من نظام بن علي الذي أصبحت حتى السطور والكلمات غير قادرة على وصف الجرائم التي اقترفها في حق الشاب التونسي طيلة 23 سنة من حكمه، تليه عشرية النهضة ومشتقاتها السياسية وحلفائها الذين نكّلوا بالشعب وعبثوا بإرادته وبشعارات الثورة التي حُملت على عاتق الشباب والذي كان الشريحة الأبرز في قيادة أحداثها وتفاصيلها وخوض أرهاصاتها من أجل تكريس مكاسب ملموسة وواقعية. ولكن المشاريع الفاشلة التي رسمت معالمها حركة النهضة أجهضت حلم الشباب التونسي في العيش الكريم وطيّ صفحة الدكتاتورية النوفمبرية، بل حرّفت التطلّعات الحقيقية وفتحت نوافذ جبهات القتال في سوريا والعراق ومحارق الإرهاب والتشدد والتطرف.
هكذا كانت الأوضاع السياسية في تونس؛ كلما أراد جيل من الشباب أن يصنع لنفسه موعدا مع التاريخ ومع التغير الجذري إلا ويجد أمامه مخالب المنظومة الحاكمة التي تفتك به دون رحمة.
كانوا يتوقون إلى التغيير الحقيقي بعد أن استنشقوا نسيم الحرية في ثورة 2011، لكن ما وجدوه بعد الثورة كان إعادة تدوير للفساد مع لمسات من القمع، وكأنهم يعيشون عرضا مسرحيا مكررا بلا ابتكار والسبب أسباب، أجندات ومبايعات وزيف ووهم سياسي وارتهان للدول الاستعمارية لم تتردد قوى اليمين العميل في تونس في تكريسه صلب برامج الحكم و الهيمنة.
وفي ظلّ هذا النسق السريع للأحداث ما بعد الثورة كان الشباب في قلب المعركة جنبًا إلى جنب مع القوى الديمقراطية والوطنية في صراع من أجل الحفاظ على مكاسب الثورة. في الوقت نفسه، كانت السلطة تستخدم الانتخابات كأداة لامتصاص القهر المتزايد الذي يعبّر عنه الشباب في الشارع، وكأنها تقول: في تونس لدينا ديمقراطية!
بينما كان الواقع مختلفًا تماما، كلما صارت الدعوة إلى الانتخابات، كان الإقبال يتراجع، وكأنّ التونسيين مدركون أو مقتنعون حتى بحقيقة صناديق الاقتراع التي لن تكون سوى واجهة لمسرحية قديمة تعيد نفسها، حيث تتكرر نفس السيناريوهات السلطوية، بلا تغيير يذكر، وهذا ما ترجمته كل نِسب المشاركة.
وفي سنة 2019 ومع تزايد الاحتقان الاجتماعي والأزمات الاقتصادية التي جرّتنا إليها منظومة حركة النهضة، فجأة، ظهر أستاذ القانون الدستوري الذي يفصح بالعربية بنظراته الصفراء، قيس سعيد المنقذ الفذ للمنظومة، والذي استمر في مبايعة صورة الراعي الأوحد للشباب ولتطلعاتهم، كذلك فكرة الحضور الدائم بين الشباب في الساحات، يشاركهم أوجاعهم وآلامهم. ومع إعلان ترشحه للرئاسة، قرّر عدد من الشباب أن يقوم بمبادرة فردية لدعمه، وكأنهم أبطال قصة خيالية يتحدّون النظام القديم بأساليب جديدة.
لم يكن سعيّد مجرد رجل مناسب في المكان المناسب، بل كان الشخص الذي يملك القدرة على إثارة إعجابهم دون الحاجة إلى حزب أو تنظيم، وكأنهم وجدوا أخيرًا مرشحًا يعبر عن تطلعاتهم بعيدًا عن الوجوه المعهودة، رغم أنه كان مدعوما من نفس المنظومة. لكن تلك الآمال لم تصمد طويلاً فكل خطب قيس سعيّد الجذابة التي استمال بها الشباب ما إن تولى الحكم حتى بدأ في قمع وهرسلة الشباب التونسي الذي مكنه من قصر قرطاج، وكأن هذه الآمال لم تكن سوى سراب في صحراء خيباتهم. وبدأ سعيّد أولا بضرب حقوق الطلبة الذين انتخبوه، بما في ذلك طلبة الحقوق، وكأنه يتجاهل تمامًا الدور الحيوي الذي لعبوه في وصوله إلى السلطة. هذه المناورات السياسية كشفت عن الوجه الآخر له، الوجه الشعبوي، هو الذي يرفع شعارات الحرية والديمقراطية، بينما يمارس القمع تحت غطاء الحكم.
ومع كل خطوة اتْخذها، بدأت خيبة الأمل تتسرّب بين صفوف الشباب، الذين أدركوا أنّ الشخص الذي اعتقدوا في صدقه وأنه سيكون صدى لأصوات حناجرهم لم يكن سوى جزءا من نفس المنظومة التي عارضوها، لم يكن سوى جلادا حقيقيا.

الشباب.. من “الثقة” إلى الانقلاب

استمرت خيبة شباب تونس من مسار الانتقال الديمقراطي المغشوش إلى انقلاب 25 جويلية، حيث وجدوا أنفسهم عالقين بين وعود لم تتحقق وواقع أصبح أكثر تعقيدا إبان انقلاب 25 جويلية.
بعد الثورة، كان هناك أمل متجدد لدى الشباب في بناء دولة ديمقراطية عادلة تعكس تطلعاتهم. لكن مع كل خطوة في المسار السياسي، كانت المشاهد تتكرر مما أنتج الانقلاب كحلقة جديدة في سلسلة خيبات الأمل.
هذه الخيبة لم تكن مجرد شعور عابر، بل تجسدت في إحساس الشباب بأنهم مجرد ديكور في مشهد سياسي لا يُعطيهم أي قيمة. إنّ الثقة التي منحها الشباب التونسي لقيس سعيد في انتخابات 2019 كانت كمن يمنح قبطانًا جديدًا السفينة بعد أن عانت من غرق متكرر، معتقدين أنه سيقودهم إلى برّ الأمان، بينما السفينة تبحر في نفس المياه الموحلة. الشباب الذي اعتاد أن يتّخذ مواقفه بعناية، قرّر أخيرًا أن يمنح سعيّد فرصة، وكأنه كان في مسابقة للرهانات السياسية. ولكن، ما إن تولى السلطة حتى برهن له أنه ليس أكثر من نسخة مكررة من نفس المنظومة التي أملوا في التخلص منها.
زادت حدة القمع وارتفع عدد القابعين في السجون وبهذا انطلق سعيد في مشروعه “الشعبوي”.
في خضم العواصف السياسية التي تعصف بتونس، لم يعد الحديث عن القمع والتضييق على الحريات مجرد تفاصيل عابرة، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من المشهد العام منذ انقلاب قيس سعيد 2021. وقد شهدت البلاد تدهورًا غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والرجل الذي غاص في مشروعه الشعبوي، يحاول الإيهام بأنه يحقق إصلاحات، لكن الواقع يصرخ بعكس ذلك.
مع استمرار الأزمات، بدأ قيس سعيد يدرك أنّ سلطته ليست سوى نتاج انقلاب لذا، أطلق العنان لصناديق الاقتراع كوسيلة لتعزيز مشروعيته وكأن الانتخابات هي السحر الذي سيعيد له الهيبة المفقودة. ومع ذلك كان هذا العرض السياسي يدور في فلكه الخاص، بعيدًا عن الواقع المعاش. ورغم نتائج الاستفتاء على الدستور الذي أفرز بنتائج هزيلة تعكس انعدام الثقة بينه وبين هذا الشعب الذي لم يكن مستعدا لتقبل مثل هذا العرض المبتذل، كان أيضا الشارع يتأجج بالمقاومة.

مهزلة 6 أكتوبر.. الشباب يقاطع..

بعد مضي الأشهر، تستمرّ المحطات الانتخابية الزائفة التي تشكل مظهرًا فاضحًا للفوضى السياسية تحت حكم قيس سعيد. على الرغم من أنّ نسبة الإقبال على الاستفتاء الدستوري والانتخابات المحلية كانت ذات دلالة واضحة؛ وهو تراجع شعبية سعيّد، إلا أنّ سعيد في عزلته السياسية لا يتوانى عن الاستمرار في مساعيه وكأنه يعيش في فقاعة من الأوهام.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية، اتضح جليًا أنّ قيس سعيد عازم على صياغة هذا الاستحقاق وفق أهوائه تمامًا كما يختار طعامه “وجبة خالية من المنافسين”، فقد قام باستبعاد المرشحين المحتملين بأساليب تعسّفية، محوِّلًا الساحة إلى حضيرة للوجوه التابعة لمشروعه. ورغم ذلك احتجز المرشح عياشي الزمال في السجن قبل الانتخابات مما يرمز إلى استشراء القمع الفكري والسياسي لديه ويعكس خوف سعيد من أيّ شكل من أشكال التنافسية التي قد تكشف عوراته السياسية.
إنّ قيس سعيد الذي يدّعي حمله لمشعل الثورة، هو في الحقيقة كمن يحمل شمعة في عاصفة، يطفئها بنفسه في كل مرة يُحاول فيها التحدث عن الديمقراطية.
يدرك قيس سعيد تمامًا أنه يغرق في فوضى إدارية عميقة، ومع ذلك يستمر في خوض غمار مشاريعه الشعبوية بامتياز، مدعومًا بهيئة انتخابات لا تتجاوز كونها أداة في يده، تعزز مساعيه لتكريس حكم فردي مطلق.
لكن في خضم هذه الفوضى، بدأت مقاومة الشباب تتبلور بوضوح، تجمع المنظمات والجمعيات تؤمن بحقهم في المشاركة السياسية وتدافع عن كرامتهم وحقهم في التعبير. حملات المقاطعة التي أطلقوها تعبّر عن رفض عميق لهذا المشهد العبثي الذي يرسمه سعيد، حيث بدأت أصواتهم تتعالى ضدّ القمع الذي يمارسه النظام بكل وقاحة.
حراك شبابي لم يبدأ في ليلة وضحاها، بل تطور قبل أيام من الحملة الانتخابية، واستمرّ حتى أثناء الحملة، في ظلّ سلسلة التحركات التي أطلقها الشباب ضدّ هذا المسار المشوّه وقد أوضح الشباب إثر هذا رمزية الإصبع الذي أُشير به في وجه سعيد رمزية قوية لاحتجاجهم. لم يكن هذا الأصبع مجرد صورة عابرة على منصات التواصل الاجتماعي، بل كان تجسيدًا لرفضٍ عميق لكل الممارسات القمعية التي يمارسها النظام. إنه تعبير عن الكرامة، وعن الرغبة في التغيير، وتجسيد للروح الثورية التي لم تمت بعد.
ومع تصاعد الاحتجاجات، أصبح واضحًا أنّ قيس سعيد، الذي يعتبر نفسه ملكًا بلا تاج، يهاب الشارع الذي يعج بالمطالبة بإسقاطه.
لذلك بدأ في استخدام أساليب قمعية ضد كل من يعارضه، فبدأت الاعتقالات والضغط على النشطاء والمحتجين.
والرسالة الأوضح لم تكن فقط في الشارع خلال التحركات الاحتجاجية، بل تجلت أيضًا يوم 6 أكتوبر، حين لم يتجاوز إقبال الشباب على صناديق الاقتراع 6%. كانت تلك الانتخابات بلا روح شبابية، وكأنها مجرد إجراء شكلي. الكثيرون من اعتبروا ذلك ظاهرة عادية، مؤكدين أنّ الشباب دائمًا ما يعزف عن المشاركة في الانتخابات، لكنهم يغفلون حقيقة أنّ قيس سعيد مارس قمعًا ممنهجا ضد الشباب.
من قضية عمر العبيدي، الشاب الذي ضاع حقه في العدالة، إلى اعتقالات الناشطين السياسيين، وصولاً إلى قمع كل صوت حر في الجامعات والأحياء الشعبية.
لم يقدم سعيد لهؤلاء الشباب سوى الأوهام، وبات مستقبلهم رهينة لسياساته الفاشلة، لذا، يجب أن نكون حذرين لأنّ ما يبدو كعزوف قد يكون في الحقيقة قرارًا واعيًا.
نعم قد يكون هناك جزء من الشباب غير مبالٍ، لكن هناك نسبة كبيرة تقاطع الانتخابات بوعي تام. إنهم يقاطعون قيس سعيد ومنظومته، وهذا موقف حاسم.
هذا الشباب المقاطع ليس مجرد رماد، بل هو قنبلة موقوتة قد تثير الأحداث قريبًا، وقد تكون هي القوة المحركة لإحداث التغيير.
وقد تتجلى صورة تونس اليوم كمرآة تعكس التوتر بين آمال الشباب وواقع السلطة القامعة في ظل قمع مستمر وممارسات سياسية معزولة، أصبح الشارع التونسي ميدانًا لصراع إرادات، حيث اتجه الشباب نحو مقاطعة الانتخابات كرسالة رفض واضحة لنظام اعتاد على تجاهل تطلعاتهم وغيابهم عن صناديق الاقتراع ليس مجرد عزوف، بل هو إعلان عن عدم شرعية تلك المسرحيات السياسية التي ولدت خيبات أمل من جديد.
إنّ هذا الجيل الذي عاش ثورات وأحلامًا لن يظلّ ساكنًا في وجه القمع، بل سيواصل التعبير عن رفضه ويشحذ إرادته حتى تتحقق تطلعاته.
وبالتالي، تبقى تونس على أعتاب مرحلة جديدة، حيث سيستمر صوت الشباب في التفجّر، محركًا الأحداث نحو تغيير عميق وجذري. فلننتظر، ف “تحت الرماد اللّهيب”، هو قنبلة موقوتة قد تثير الأحداث قريبا، وقد تكون هي القوة مز لإحداث التغيير.

إلى الأعلى
×