بقلم فتحي كليب، عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
نعيش هذه الأيام أجواء الذكرى السنوية الأولى لمعركة طوفان الأقصى التي ستظل ذكراها تؤرق العدو الاسرائيلي بمختلف تشكيلاته لعقود قادمة، نظرا لما حملته من أبعادٍ ومن تداعيات ستبرز نتائجها بشكل جليّ بعد انقشاع غبار العدوان.
رغم أن العدو الإسرائيلي خاض عدد واسع من الحروب مع جيوش عربية نظامية وانتصر في جميعها، لكنه فشل في تحقيق الأمر ذاته مع فصائل المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان. ولعل تفسير ذلك يعود إلى الإرادة التي تتحلّى بها فصائل المقاومة والعزيمة على مواجهة العدوان، وهي رسالة إلى كل مقاوم وكل متردّد وكل خائف أن العدو الصهيوني أجبن من أن يواجه مقاوم يتسلّح بحقه بأرضه وبتاريخه ومستقبله.
اليوم بعد مرور عام على العدوان، نحن واثقون أن جميع الأطراف المعنيّة على المستويين الدولي والإقليمي وعلى المستويين الأمريكي والاسرائيلي لم تكن لتتوقع أن تمتدّ لحرب لعام كامل، وأن تبدع المقاومة الفلسطينية في المقاومة كما في الصمود دون أن تتمكّن إسرائيل من تحقيق أي من أهدافها المعلنة، وفي مقدّمتها القضاء على فصائل المقاومة واستعادة الأسرى الإسرائيليين وتهجير الشعب الفلسطيني والإتيان بسلطة تدين بالولاء إلى جيش الاحتلال..
بعد عام من عمر حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزّة بتنا أمام مشروع أميركي-إسرائيلي يهدف إلى تحقيق أهدافه، ليس بالقوة فقط، بل وبرسالة إرهاب إلى كل المنطقة في طريقة القتل الجماعي للمدنيّين بشكل خاص. وهذا ما تعمل عليه الولايات المتحدة وإسرائيل في فلسطين ولبنان، بهدف القضاء على كل مظاهر المقاومة في المنطقة، عسكرياً وسياسياً وثقافياً وغيرها، لذلك حشدت الدول الغربية أساطيلها الجوية والبحرية وزجّت بكل آلتها الحربية، مستهدفة القيادات كما البنية المجتمعية، لتجريد المقاومة في لبنان، وفي فلسطين، من حاضنتها الشعبية، لكن ما يحصل في الميدان وفي النتائج السياسية لا يطابق بالضرورة ما خطّط له التحالف الأمريكي الإسرائيلي..
ولعل من ضمن أسباب شنّ نتنياهو للحرب على لبنان هو الفشل الذي مُني به جيشه في قطاع غزّة، وبالتالي إعلان جيشه المهزوم اكثر من مرة أن ليس هناك شيئ يمكن أن يفعله في القطاع، سوى المزيد من القتل والتدمير الذي يجب أن يبقى على الدوام عنوانا يلاحق إسرائيل في مختلف المحافل الدولية السياسية والقانونية والشعبية.
كان يمكن لنتنياهو أن يقرب موعد عدوانه على لبنان، خاصة وأن المعطيات الاستخبارية عن المقاومة، كما تتحدث كل المعطيات، كانت بحوزته منذ أشهر، لكنه لم يستخدمها إلا بعد أن وصل إلى الطريق المسدود في قطاع غزّة، ظنّا منه أنه قادر على تحقيق نتائج سياسية تضغط على المقاومة في القطاع، وأقصد إمكانية إخضاع المقاومة في لبنان، لكن خابت توقعات نتنياهو وجيشه وتأكد من خلال الأسبوعين الماضيين أننا أمام واقع قد يمتدّ لسنوات قادمة، وأنه من غير المتوقع أن تحقّق إسرائيل ما خطّطت، له سواء بإعادة الهاربين من مستوطنات شمال فلسطين، أو بإجبار المقاومة في لبنان على التراجع إلى ما بعد حدود نهر الليطاني..
ما تريده النخب الإسرائيلية على اختلاف انتماءاتها السياسية والفكرية والعقائدية الآن هو استعادة ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش الذي اهتزّت صورته، لأن هذه الثقة تعتبر النقطة المركزية في نجاح أو فشل المشروع الصهيوني الامبريالي سواء لدى يهود إسرائيل أو يهود العالم..
وهذا هو السبب الأساسي لإجماع القوى السياسية في إسرائيل على العدوان ضدّ غزّة ولبنان، وهو أن الأمن عنصر أساس في برامج كافة الأحزاب في إسرائيل التي تتسابق به أمام الجمهور الإسرائيلي من أجل الكسب والتأييد الشعبي.. لذلك هو استغلال أكثر منه إيمان بإسرائيل “الدولة”..
هناك مسألة غاية في الأهمية، وجيش الاحتلال الصهيوني يعرفها جيدا، لكنه يكابر بعدم الاعتراف بها، وهي أن المقاومة ضد الإحتلال في فلسطين كما في لبنان، تنطلق من الشعب والمجتمع أولاً، ولولا انخراط الشعب والمجتمع بأسره في المقاومة، لما كان بإمكان الأجنحة العسكرية أن تصمد طيلة هذه الفترة في المعارك المُكْلِفة بقطاع غزة على سبيل المثال، آخذين بالإعتبار الإختلال الواسع في ميزان القوى بين إمكانيات الحركة الفلسطينية باعتبارها قائمة على تشكيلات فدائية، في جغرافيا ضيّقة ومحاصرة، وبين إمكانيات العدو الصهيوني العسكرية المتفوّقة، بخطوط إمداد سخيّة مفتوحة. وهذا يؤشّر مرة أخرى إلى عمق العلاقة التي تربط المقاومة بمجتمعها وبجماهيرها، ما يعني أننا أمام شعب واحد، ذي إرادة سياسية موحّدة، واستعداد عالٍ لتقديم كل التضحيات اللازمة من أجل مستقبل الوطن، حريته واستقلاله.
من هنا أهمية التأكيد الدائم على حقيقة أن الشعب هو المقاومة، المجتمع هو المُنْجِب والحاضن معاً للمقاومة، هو الذي يمدّها بعناصر القوة والتجدد؛ أما التشكيلات العسكرية، فهي عبارة عن أذرع تنفيذية لهذه الإرادة الشعبية، إرادة المجتمع الفلسطيني للمقاومة بكل الوسائل المتاحة من أجل وضع حدٍّ للعدوان الصهيوني المتمادي على الشعب.
وليس سرّا القول أن إسرائيل تصطدم بمقاومة جدّية وقوية في القطاع، لكن أكثر ما يؤرق قادة العدو الصهيوني وجيشهم المهزوم هو تحوّل الحرب إلى «حرب استنزاف»، باتت تنال، مع استمرارها، مقتلاً من التفوق العسكري للعدو، بما يضع الكيان على سكّة تفاقم أزمته البنيوية، ليس معلوم متى سيخرج منها، خاصة مع العدوان الذي شن على لبنان. وتؤكد كل المؤشرات أننا أمام هزيمة محدقة بجيش الغزاة الصهاينة تترجمها الضربات المؤلمة والقويّة للمقاومة في لبنان ونحن ما زلنا في الأيام الأولى للعدوان.
المؤكد أن «حرب الاستنزاف» أمر لا يريده العدو الإسرائيلي لأنه يتعاكس ويتناقض مع عقيدته التاريخية القائمة أساسا على مفهوم «الحرب الخاطفة» التي تكون أرض العدو مسرحا لعملياته وعبر إجباره على الاستسلام، كما كرّر نتنياهو منذ اليوم الأول للحرب بأنه يريد نصرا ساحقا أي استسلام الشعب الفلسطيني ومقاومته، ولكن ما تكرّس خلال الأشهر الماضية هو أعمال حربية ممتدة، تدور بقسم كبير منها على أرض الكيان الغاصب، ما يعني أن الأسلوب الذي تُدار فيه الأمور، لم يكن خيار العدو الأول، بل فُرِض عليها فرضاً، واضطُرّ للانسياق إليه رغماً عنها، لأسباب عدة.
«حرب الإستنزاف» التي انجرّ إليها العدو بفعل صلابة المقاومة، تضعه الآن أمام خيارين، كلاهما يعكس أزمته المستحكمة، ويقودان بالنتيجة إلى الإعتراف بالهزيمة: إما الإنكفاء، الذي يعني اعتراف إسرائيل بعجزها عن تحقيق أهدافها المعلنة، ما يساوي الهزيمة في هذه الحرب التي تُصنَّف ضمن فئة الحروب غير المتناظرة، حيث يَهزِم التشكيل الفدائي التشكيل النظامي، عندما لا يُمَكِّن الأخير من تحقيق أهدافه.
أو التصعيد، الذي – بدوره – يصطدم بعقبتين: 1- قدرة جبهة المقاومة على الردّ في ضوء إدراك العدو عدم استطاعته تحمّل الخسائر البشرية، على نقيض من يواجهه؛ 2- عدم رغبة واشنطن أو عدم حماسها لحرب واسعة على مستوى الإقليم، لتعارضها مع مصالحها؛ فالحرب التي نحن بصددها هي «حرب أميركية» من زاوية الإمداد والتمويل والإستخبار وتوفير المظلة السياسية، إلى جانب التموضع العسكري؛ ومن هنا مرجعية واشنطن القاطعة فيما يتعلّق بقرارات السياسة العليا التي تبتّ بمستوى التصعيد، وتوقيته.
إنّ خوض «حرب استنزاف» ضدّ قوات الاحتلال ستكون نتائجها عنصراً مهماً، إن لم يكن الأهم، في رسم نهاية العدوان في القطاع، وفي التأثير على المواجهات الجارية في الضّفة، وفي إجهاض مشروع الحكومة الإسرائيلية لمستقبل الضفة والقدس والقطاع معاً..
رغم مرور عام على “طوفان الأقصى”، فما زال التقييم منقوصا نظرا للتعتيم الذي يفرضه العدوّ على خسائره البشرية والاقتصادية وعلى الخسائر السياسية والاستراتيجية غير المنظورة، وفي مقدّمتها عودة القضية الفلسطينية لتحتل موقعها الهام والطبيعي في صدارة المشهد الدولي وعزل اسرائيل على المستويات القانونية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية الدولية، والأهم من ذلك انتهاء كذبة “جيش إسرائيل الذي لا يقهر” ورفع منسوب الثّقة لدى شعوبنا ولدى حركات التحرر العربية بإمكانية هزيمة الاحتلال وتحرير فلسطين، بعد أن أكّدت الأحداث عجز العدو الإسرائيلي عن حماية نفسه، ما سيطرح لاحقا وبشكل جدّي مسألة تشكيل نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب وأكثر توازنا في التعبير عن قضايا الشعوب وفي مقدّمة ذلك قضية الشعب الفلسطيني التي باتت قضية الإنسانية برمّتها..