بقلم عمار عمروسيية
أكدّت وقائع العدوان الإجرامي الهمجي طوال أكثر من عام أنّ الخيار الوحيد لحكومة الكيان النازي هو القوّة الغاشمة ضدّ شعوب المنطقة وعلى الأخصّ الشعبين الفلسطيني واللبناني.
فحكومة “نتانياهو” بدعم سخيّ متنوّع من بعض الدول الغربية ومشاركة أمريكية نشيطة أمعنت في مراكمة فظاعاتها البشعة التي يكاد يحصل إجماع عالمي على اندراجها ضمن بوتقة الجرائم ضدّ الإنسانية.
فجيش الاحتلال تحت توجيهات ساسته الفاشيست ووفق عقيدته العسكرية القائمة على التّقتيل الأعمى والانتقام الواسع انطلق منذ عملية طوفان الأقصى البطولية في 7 أكتوبر الماضي في عدوان غير مسبوق ضدّ القطاع وأهله مخلّفا وراءه فاتورة خسائر بشرية ثقيلة فيها أكثر من 50 ألف شهيد إذا احتسبنا الـ10 آلآف مفقود وقرابة 100 ألف جريح بالإضافة إلى التدمير الممنهج والواسع للمنازل والبُنى التحتية.
لقد حوّل العدوان الوحشي مجمل القطاع إلى فضاء غير قابل للعيش والحياة وقطّع أوصاله إلى “كنتونات” معزولة شمالها مقفل على وسطها والأخير مغلق عليهما ضمن حصار مطبق يطال كلّ المستلزمات الدنيا للحياة والبقاء.
لقد خاضت ومازالت “دولة” الاحتلال الاستيطاني أطول حروبها على الإطلاق منذ وجودها سنة 1948تحت أهداف معلنة وأخرى مبطّنة وقد تكون هي الأهم.
ففي الجانب الأولّ تحرّكت آلة البطش والتّدمير وأمامها سحق المقاومة بما يضمن أمن مغتصباتها وتحرير أسراها من قبضة أسر فصائل المقاومة، أمّا في الجانب الآخر فالسّلاح والأعين كانا على التّهجير وعودة الاستيطان والضمّ لأجزاء واسعة على الأقلّ من أراضي “غزة”.
قبل الكيان تحمّل ارتفاع الكلفة الأعلى لعدوانه بشريا وماديّا وراء ملاحقة سراب الانتصار المطلق فلم يفلح إلاّ في ترسيم كيانه في خانة “الدول” المارقة المنبوذة ليس فقط في نظر شعوب العالم وقوّاه المحبَّة للتحرّر وإنمّا ضمن طيف واسع من دول العالم ومؤسسات وهياكل ما يعرف بالمجتمع الدولي.
فحصيلة العدوان رغم اختلال موازين القوى لفائدة الكيان كانت صفرية فلا أسراه تمّ تحريرهم ولا سلاح المقاومة تمّ تدميره ولا عودة المستوطنين لمغتصبات غلاف “غزة” حصلت.
لقد راكم الجيش الأول بالمنطقة الإخفاق تلو الإخفاق ولم يفلح إلاّ في تحقيق بعض المنجزات التكتيكية التي سرعان ما تبدّدت أمام صمود الغزّاويين وبسالة المقاومة التي نجحت في المحافظة على قدراتها العسكرية والبشرية وتمكّنت من إدارة معاركها بعقلانية كبيرة جمعت بين حسن توظيف الأرض والوسائل وبين جرأة لا مثيل لها.
لقد قدّمت المقاومة الفلسطينية طوال هذا العام نموذجا استثنائيا لحسن إدارة حرب العصابات المعتمدة أولا على الإيمان العميق بعدالة التّحرير وقدسية الأرض وثانيا على تطوير أدواتها الخاصّة وصيانة سلاحها الأمضى ونقصد شبكة الأنفاق.
رغم مرور عام من هذا العدوان الغاشم وهذه المنازلة غير المتكافئة فإنّ المقاومة بالقطاع مازالت سيّدة الأرض رغم الاجتياح الواسع من “بيت لاهيا” حتّى “رفح”، فهي تمنع القوّات الغازية من بسط سيطرتها وتثبيت مواقعها ضمن مناخ آمن.
وهي تلحق بالجيش “الذي لا يقهر” خسائر فادحة في العتاد والبشر وتطلق صواريخها ليس فقط نحو غلاف “غزة” وإنمّا من حين لآخر تجد القدرات لرشق “تلابيب” بالصواريخ.
والأهمّ من ذلك أنّ غرفة العمليات المشتركة مازالت قادرة على تأمين دورها في التّحكم والسيطرة الذي نجد بصماته الواضحة في الكمائن المعقدّة والمركبة وفي مباشرة “التدوير والتصنيع” الذي يغذّي مخزون السّلاح لرجال المقاومة الواقفين بشجاعة كبيرة أمام خطّة ما يُسمّى بالجنرالات الإجراميّة التي يقع تنفيذها منذ 12 يوما في “جباليا”ومخيّمها.
يعلق جيش الكيان في وحل القطاع ويفقد يوميا تحت ضربات المقاومة من جنوده ويخسر بنسق مرتفع من الرصيد الخرافي لجيشه، فهو وفق تصنيف إحدى هيئات الأمم المتحدة ضمن قائمة قتلة الأطفال جنبا إلى جنب مع “داعش” وبعض حكّام الكيان محلّ تتبعّات قضائية من قبل محاكم دولية وازنة مثل “محكمة الجنايات الدولية”.
يغرق الجيش الأقوى بالمنطقة في القطاع الصغير جغرافيا والمحاصر منذ أكثر من 17 سنة ويبقى صغيرا وعاجزا عن حسم حربه مع المقاومة الفلسطينية إن في “غزة” أو بالضفة الغربية وبالرّغم من ذلك نقلت حكومة القتل عدوانها إلى ساحات جديدة مثل “اليمن” و”العراق” وخاصة “لبنان” الذي أضحى ساحة الحرب الأساسية وفق الإستراتيجية العسكرية التي أعلن عنها “نتانياهو” ووزير حربه “غالنت”.
وحدها القوّة الغاشمة هي من جديد الخيار الأوحد للكيان المتوحش الذي صعّد من أعماله العدائية ضدّ “حزب الله” وشعب لبنان وافتتح موجة عدوانه يوم صبيحة 17 سبتمبر بمجزرة “البايحر” وأعقبها في اليوم الموالي بمذبحة تفجيرات اللاسلكي وأردفها بسلسلة واسعة من العمليات الأمنية الاستخباراتية كانت نتائجها اغتيالات جبانة لعدد كبير من قيادات “حزب الله” يتصدّرهم بطبيعة الحال آمين عام الحزب “السيد حسن نصرالله” وقائد الأركان “فتحي شكر”.
لقد كانت الأيّام الممتدّة من 17 سبتمبر إلى حدود 27 من نفس الشهر أياما صعبة جدّا على المقاومة وحاضنتها ذلك أنّ اندافعة قوى العدوان كانت شديدة العنف، إن بواسطة سلاح الجوّ والقصف لكلّ الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية وحتّى العاصمة “بيروت” وإن من خلال عمليات الاغتيال المسترسلة ونجاحها في الوصول مثلما أسلف لرأس الحزب بما يعنيه من رمزية معنوية وسياسية كبيرة ليس فقط في صفوف الحزب وحاضنته وإنما داخل محور المقاومة برّمتها.
لقد كانت العشرة أيام المذكورة أعلاه وما رافقها من نجاحات جزئية تكتيكية لجيش الاحتلال منطلقا لسقوط قيادات الكيان السياسية والعسكرية في دوائر الانتشاء المرضي والغرور الانتقامي للقفز بسرعة عجيبة عن أهداف العدوان المعلنة والإفصاح الوقح عن مرامي مغايرة تقوم على إحياء مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أسقطه “حزب الله “بعد انتصاره في حرب تموز 2006.
نشوة الانتصار الكاذب ورعونة قادة الكيان الصهيوني وحماته استبقوا خواتيم المنازلة وتسرّعوا في قطف ثمار تلك المنجزات ضمن سقوف شديدة العلوّ فيها وهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء على جميع الواجهات والساحات بما يؤمنّ تغيير الواقع اللبناني لفائدة قوى العمالة وإعادة ترتيب المنطقة والإقليم وفق الدّور المحوري والطلائعي لكيان الاحتلال ضمن نظام رسمي عربي محكوم بقواعد الخضوع التّام والتطبيع العلني الشامل.
هكذا دوما وعلى الأخصّ في المنعرجات الحادّة من تاريخ نضال شعوب العالم ضدّ الاحتلال والهيمنة يزداد الغباء وقصور النّظر داخل دوائر قوى البطش والإلحاق التي يعميها تفوّقها العسكري والتقني على استيعاب مكامن القوّة لدى الشعوب المقهورة وحركاتها التّحررية.
وضمن هذا السياق وهذه الحدود علا سقف مطامح الكيان الصهيوني في “لبنان” والمنطقة و لم يأخذ بعين الاعتبار قدرات “حزب الله” على سرعة التعافي وقلب الأمور تدريجيا والمرور بعد ترميم بيته وتجاوز جراحاته إلى تطوير أدائه المقاوم وفق تقاليده التي لم تعرف منذ تأسيسه الانكسارات والهزائم.
تدحرج الكيان إلى مستنقع “لبنان” وفي انتظاره مقاومة عنيدة ومصمّمة على الثأر لدماء قادتها ومعها حاضنة ذات تقاليد نضالية كبيرة لا يمكن بالمرّة، مهما اشتدت التضحيات، إبعادها عن مقاومتها التي حمتها وحمت كلّ شعب “لبنان” من بطش الاحتلال وصلفه.
تعافى “حزب الله” وأخذ زمام المبادرة بقبضة مقاتليه وانتقل منذ أسبوعين تقريبا إلى التحكّم من جهة في الميدان بالجنوب، الأمر الذي عطّل جميع محاولات الاجتياح وفرض على القيادات العسكرية نحت مصطلحات جديدة مثل الاختراق أو التسلّل، ومن جهة أخرى كثّف من تشغيل مختلف ترسانة أسلحته (طائرات مسيّرة، وقذائف مدفعية، صواريخ الخ…) ضمن نسق تصاعدي ألحق خسائر معتبرة بقوات الاحتلال على الخطّ الأزرق الحدودي وداخل أعماق الأراضي المحتلّة.