بقلم مرتضى العبيدي
صدر في الآونة الأخيرة المؤلف الجديد للمناضل حمة الهمامي، أحد رموز اليسار في تونس، بعنوان “الفاشية الزاحفة”. ويتألف الكتاب من 416 صفحة موزعة على 17 فصلاً، مع تصدير كتبه جيلاني الهمامي، رفيق درب المؤلف، ومقدمة باللغة الفرنسية كتبها جان لوك ميلينشون، زعيم حركة “فرنسا الأبية”.
وإذ خصص هذا الأخير مقدمته لـ«الفاشية الجديدة في أوروبا» ليكشف عن أساليب عملها والطبقات الاجتماعية التي تمثلها والداعمة لها، فقد تناول صاحب التصدير الحالة التونسية، التي يعتبرها حمة الهمامي “فاشية زاحفة”.
ومن بين الفصول السبعة عشر التي يتكون منها العمل، فإن بعضها يُنشر للمرة الأولى، بينما حُظي بعضها الآخر بنشر سابق في شكل مقالات رأي، في مناسبات مختلفة، ولكن تم إدراجها في المتن الجديد لعلاقتها الوطيدة بموضوع هذا الكتاب، وهو المتعلق بتشريح نمط الحكم الفردي الديكتاتوري الفاشي والمتمثل في تونس في شكل شعبوية يمينية محافظة ومتطرفة.
وتبرز مختلف الفصول الاهتمام المبكّر للمؤلف بظاهرة الشعبوية عموما ونموذجها التونسي بشكل خاص. وهو ما يسمح له اليوم بتقديم قراءة عميقة ودقيقة لها، يميط اللثام عن خفاياها من خلال تقديم تحليل لسياق ظهورها وصعودها إلى السلطة وكذلك جوهر خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هدفه الكشف عن قاعدتها الاجتماعية والطبقات والمصالح التي يمثلها داخليا وخارجيا.
ويستعرض الكتاب خصائص الشعبوية التونسية من خلال تحليل خطابها وأدواته الأيديولوجية والمفاهيمية المنقولة عبر الدعاية التي يروج لها “مفسروها” و”شرّاحها”، وخاصة من خلال التقييم الملموس لخمس سنوات من سلطة قيس سعيد بما فيها ثلاث سنوات ونصف من الحكم المطلق.
ففي تحليله لسياقات بروز الشعبوية، أكد الكاتب أنها لم تأت صدفة، وأنها لم تأت من السماء كما يوحي بذلك خطاب بعض الشرّاح والمريدين الذين يقدمونها على أنها ذات أبعاد “رسالية”، بل إنها ظهرت كإحدى نتائج الأزمة السياسية والاقتصادية الشاملة التي تردّت فيها البلاد خلال السنوات اللاحقة للثورة، وفشل منظومة حكمها في تلبية مطالب الجماهير – ولم تكن مؤهلة لذلك – والتي لم تكن تسعى إلا للانحراف بالثورة عن مسارها وغلق قوسها بصفة نهائية.
وبما أن الشعبوية شعبويات، فقد تركز اهتمام المؤلف على إبراز خصوصياتها في تونس والمرتبطة أساسا باختلاف البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ظهرت فيها وخاصة واقع ميزان القوى بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادّة في لحظة ما من تطوّر الصراع الطبقي في بلادنا. وقد أوجزها المؤلف في تعريف مكثف نورد منه ما يلي: فالشعبوية عندنا هي « نزعة غارقة في النرجسية، مغامرية، انفعالية، متشنجة، “ميسيانية” أو مهدوية (المهدي المنتظر)، طهورية تدّعي تحقيق المعجزات، عنيفة، عدوانية، تآمرية، لا تعير اهتماما لمعطيات الواقع ولا لاتجاهات تطوّره، بل تنظر إليه بشل متكلّس، تنتقي منه ما تريد، وتتجاهل خاصة ما يدينه من معطياته ووقائعه، سابحة في “العلوّ الشاهق”، تبسيطية، تتهرّب من مواجهة تعقيدات الواقع، غير مسؤولة، تدّعي في العلم معرفة حتى وإن غابت عليها جلّ الأشياء، لا تقبل التناقض أو الخلاف ولا ترى فيه إلا تآمرا، فتضرب بعصاها كل منتقد أو معارض لا يؤمن “برسالة المنقذ المتألّه”، تسبح في الماضي لطمس عجز أساسي/ جوهري عن معالجة قضايا الحاضر والمستقبل، استعراضية، استفزازية، نفعية، لا يهمها أن تقول اليوم عكس ما قالته بالأمس، انتقائية، محافظة، تعادي التقدم والتطوّر لأنه يعني التغيير، بل لأنه قائم على النسبية وعلى حقيقة أن كل شيء انتقالي، إلى زوال، ليأخذ مكانه الجديد، لا حجّة لها، كلما أعوزتها الحجّة وهي تُعوزها دائما، غير التخوين والإقصاء والتقسيم والتهييج وإثارة الغرائز البدائية بما فيها الغرائز الوحشية، العنصرية، المترسّبة في النفوس، بما يوسّع المساحة بين طرائق التفكير وإمكانيات الفعل. وهذه العناصر كلها، رغم أنها تبدو متناقضة ومتنافرة، فإنها تمثل في الواقع عناصر لإيدولجية واحدة يربط بينها خيط واحد وهو الديماغوجيا، أي استعمال كل الطرق والأساليب للتأثير في قطاعات من “الجمهور”، القطاعات التي تجعلها ظروفها في لحظة من اللحظات التي يغيب فيها الحل العقلاني، الواقعي، الثوري، التقدّمي، لا عقلانية، تقبل بسهولة خطابا ديماغوجيا “ميسيانيا”، “مهدويا” كاذبا».
ويُعتبر الفصل الأول للكتاب، وهو آخر فصول الكتاب تحريرا (سبتمبر 2024) تقييماً شاملاً ودقيقاً وواضحاً لحكم المرشح- الرئيس. فهو يستعرض بالتحليل والنقد كل الإجراءات المتخذة منذ 25 جويلية 2021 والرامية إلى تفكيك بنيات الدولة بهدف استبدالها بجهاز جديد صممه بمفرده. وقد تتبّع المؤلف الخطوات العملية على هذا الطريق والمتمثلة في احتكار إدارة الشأن العام، وتدجين القضاء والمحاماة، وتصفية الهيئات الدستورية والرقابية التعديلية، وتفكيك الإدارة، والتعسف الممنهج لتكميم الأفواه، واستهداف الأحزاب والجمعيات والتضييق عليها لإخراجها من الفضاء العمومي استعدادا لتصفيتها وضرب حرية التنظيم، ومحاصرة الاتحاد العام التونسي للشغل قصد تحييده أو تهميشه، وإلغاء مبدأ الانتخاب والتمثيلية، والاعتماد الكلي على الأجهزة الصلبة للدولة التي جعل منها عمادا لحكمه، ممّا أعاد سطوة البوليس على الحياة العامة. كل هذا رافقه تدمير ممنهج ومستمرّ لحياة الشعب التي عاد إلى أيام ظنها من الخوالي يقضيها في طوابير الموادّ الأساسية المفقودة والنادرة.
وبدون الخوض في المزيد من التفاصيل، فإننا نعتبر أن الاستنتاج الأهمّ الذي توصل إليه هذا التحليل هو ما يتعلق بطبيعة السلطة قيد الإنشاء. حيث يؤكد الكاتب أن البلاد تمر بمرحلة تحوّل من نوع من النظام السياسي إلى آخر: من النظام الديمقراطي الليبرالي الناتج عن المسار الثوري لسنة 2010-2011 بكل عيوبه ومساوئه إلى نظام استبدادي دكتاتوري هدفه الأساسي هو “إغلاق قوس الثورة”، وهو نظام ليس لديه ما يحسده عليه أسلافه قبل الثورة. لذا نجد المؤلف يؤكد في أكثر من موضع على أن التخلص من الشعبوية لن يكون بالخضوع لها أو مجاراتها لكن بالنضال الحازم ضدّها مع غلق المنافذ أمام إمكانية رجوع “البدائل المغشوشة” التي عانى منها التونسيون والتونسيات قبل الثورة وبعدها.
لكل هذا نعتبر أن هذا العمل، يشكل في رأينا، مساهمة مهمة تنضاف إلى الكتابات العديدة التي نشرها المؤلف خلال مسيرته السياسية والتي أثارت نقاشات حيوية ومثمرة في إبانها (انظر القائمة في الملحق)، مساهمة مهمّة باعتبار الجهد النظري والفكري الذي احتوت عليه، ومهمّة كذلك باعتبار الدعوة الواردة في ثنايا الكتاب والموجهة لكل القوى الثورية والتقدمية والديمقراطية للمساهمة في بلورة وتطوير خطة المقاومة لسياسة “الفاشية الزاحفة”.
الملحق: تذكير بالكتابات السابقة لحمّة الهمامي
- ضد الظلامية، دار صامد للنشر، تونس، 1985 (طبعة ثانية : 1989)
- البيرسترويكا: ثورة مضادة داخل الثورة المضادة، دار صامد للنشر، تونس، 1988
- قراءة في تاريخ الحركة النقابية في تونس، دار صامد للنشر، تونس، 1988
- المجتمع التونسي: دراسة اقتصادية واجتماعية، دار صامد للنشر، تونس، 1989
- في اللائكية، دار صامد للنشر، تونس، 1990
- اشتراكية أم بربرية، دار صامد للنشر، تونس، 1992
- المرأة التونسية: حاضرها ومستقبلها، دار صامد للنشر، تونس، 1992
- طريق الكرامة، منشورات اللجنة الوطنية والدولية لدعم حمة الهمامي ورفاقه، باريس، 2002
- مطارحات حول قضية المرأة، منشورات البديل، تونس 2009
- الحرية أم الاستبداد؟، منشورات البديل ، تونس، 2013
- من يحاكم من؟، منشورات البديل، تونس، 2013
- المرأة والاشتراكية اليوم، منشورات البديل، تونس، 2013
- المفرد والجمع في الحرية والمساواة، منشورات حزب العمال، تونس، 2019
- الشعبوية في تونس: ثالوث الاستبداد والتفقير والتبعية، منشورات حزب العمال، تونس، 2022