بقلم علي البعزاوي
هذا الشعار رفعته الجبهة الشعبية ولم تستطع تحقيقه على أرض الواقع قبل أن تنحل لأسباب ليس هنا مجال شرحها. تفككت الجبهة الشعبية وبقي شعارها قائما ومطروحا كمهمة مباشرة للإنجاز بعد فشل كل المنظومات التي مرت على حكم تونس من 2011 إلى اليوم. راهنية هذا الشعار وأهميته تجد مبرراتها في استفحال الأزمة الشاملة والعميقة والمواصلة في نفس الخيارات والسياسات التي كانت سببا في اندلاع الثورة التونسية. فلا الترويكا ولا تحالف النهضة النداء ولا الشعبوية اليمينية المحافظة وحكوماتها المتعاقبة حاولت مراجعة هذه الخيارات بما يتيح إمكانية التعافي والخروج من عنق الزجاجة. بل على العكس من ذلك يبدو أن الأوضاع تزداد سوءا فنفس الأسباب تقود بالضرورة إلى نفس النتائج.
المشترك بين المنظومات الرجعية الحاكمة
لقد فشلت كل المنظومات التي تعاقبت على الحكم بعد 2011 وخيبت تطلعات التونسيات والتونسيين لعدة أسباب أهمها:
أولا طبيعة الخيارات والسياسات التي انتهجتها مختلف الحكومات ومن ورائها الأحزاب والشخصيات والجهات الداعمة لها التي حكمت تونس ما بعد 2011 والتي انحازت جميعها وبلا استثناء لمصالح البورجوازية الكمبرادورية ولمشغليها من القوى الاستعمارية بشركاتها ومؤسساتها واستثماراتها الموجهة والمشروطة على حساب مصالح الأغلبية الشعبية التي كانت محرّك الثورة وكانت لها مصلحة واضحة وأكيدة فيها. لكنها لم تجنِ سوى الفقر والبطالة والتهميش.
قلة من العائلات التي حكمت وتحكم تونس منذ عهد بن علي إلى اليوم احتكرت وتحتكر مجمل الأنشطة والمشاريع الاقتصادية في كل المجالات والقطاعات مقابل أجور بؤس. وهي في الجوهر عائلات وكيلة للمصالح الاستعمارية في بلادنا وخادمة لمصالحها وأجنداتها على حساب سيادة تونس واستقلالها ونهضتها. وكل نظم الحكم جاءت لتدافع حصريا عن مصالح هذه العائلات وتهميش مطالب الأغلبية.
ثانيا تغييب الشعب عن مؤسسات الحكم. فالعمال والفلاحون والمثقفون والمبدعون التقدميون والشباب والنساء وأصحاب المشاريع الصغرى والمتوسطة وهم جمهور الثورة وقع تغييبهم وكانت الكلمة في البرلمانات المتعاقبة، بما فيها “الوظيفة التشريعية” حاليا، للمدافعين عن الخيارات الليبرالية المتوحشة وعن سياسات الاقتراض والتداين والتقشف ورهن الأجيال القادمة والتفويت في مقدرات البلاد التي هي ملك للشعب التونسي. والأرقام المتعلقة بنسب التداين الخارجي التي شهدت تصاعدا كبيرا من 2011 إلى اليوم تؤكد هذه الفكرة.
ثالثا الديمقراطية التي جاءت بها الثورة كانت ديمقراطية شكلية تتمثل في حرية الترشح والتصويت والدعاية قبل أن يقع الانقضاض عليها في المرحلة الشعبوية وكانت في كل مراحلها بلا مضامين اقتصادية واجتماعية من شأنها خدمة مصالح الأغلبية (التنمية الجهوية والمحلية-التشغيل-الخدمات الاجتماعية-البيئة…).
ما هي الحلول وبأي برنامج؟
أولا وقبل كل شيء، لا بدّ من التأكيد على أن الحلول المنتظرة لا يمكن أن تأتي من المنظومات التي سبق أن حكمت تونس وتحكمها حاليا لأنها منظومات فاشلة وعاجزة عن الاستجابة لانتظارات الشعب التونسي. والتجربة الملموسة أكدت ذلك. كما أن الحلول لا يمكن أن تأتي من خلال التنسيق مع هذه الأطراف والتعاون معها فلا التجمع ولا النهضة ولا النداء بمشتقاته المختلفة ولا الشعبوية اليمينية الحاكمة حاليا قادرة على توفير الحلول، بل باستقلالية عنها وعلى أنقاضها.
ثانيا لا يمكن ابتداع حلول مجدية وبناءة بالمضيّ في نفس خيارات التبعية والاستغلال وخدمة مصالح كبرى الشركات والمؤسسات الاستعمارية ووكلائها المحليين. هذه الجهات تمثل العائق الرئيسي أمام تحرير قوى الإنتاج الاجتماعي في تونس وأمام أيّ نهوض اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي مستقل. فلا تنمية ولا سيادة وطنية ولا ازدهار في ظل نفس الخيارات القديمة.
ثالثا لا يمكن المواصلة في تغييب الشعب عن سلطات القرار لأنه صاحب المصلحة والطرف الأكثر قدرة على انتهاج خيارات وسياسات تخدم مصالحه المباشرة والبعيدة.
نأتي الآن إلى البرنامج/الحل وهو يتمثل في خيارات وسياسات جديدة عمادها اقتصاد وطني مستقل موجه لخدمة الحاجيات الأساسية للشعب وملبّي لمتطلبات الإنتاج في مختلف القطاعات. اقتصاد يرتكز على القطاعات الاستراتيجية من صناعة وفلاحة وبنية تحتية ومنتج للثروة وقادر على استيعاب جيوش المعطلين ومحقق للاكتفاء الذاتي المحلي ولو على مراحل.
هذا الاقتصاد المستقل بحاجة إلى دولة جديدة قادرة على تنشيطه ودعمه وإنجاح هذه الخيارات الجديدة الخادمة لمصالح الأغلبية على نقيض ما كان ساريا في دولة الاستعمار الجديد أو ما يطلق عليه بدولة الكمبرادور. وهذه الدولة الجديدة لن تكون سوى الجمهورية الديمقراطية الشعبية المستقلة عن كل أشكال التبعية والمكرسة للديمقراطية بمعناها الشعبي الواسع. جمهورية تفتح الطريق أمام الشعب التونسي بمختلف طبقاته وفئاته لكي يكون سيدا على ثروات بلاده وعلى قراره الوطني المستقل من خلال هيئات تمثيلية منتخبة ممثلة لكل فئات الشعب حسب كوتا يحددها القانون (نسبة للعمال وأخرى للفلاحين والشباب والنساء وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة والمثقفين والمبدعين…) هيئات يمكن مراقبتها ومحاسبتها. وهي مؤسسات تشرع القوانين والميزانيات والمعاهدات وتنتخب السلطة التنفيذية وتراقب أداءها وتحاسبها أيضا ويمكن سحب الثقة من أيّ نائب أو مسؤول في السلطة التنفيذية لا يلتزم بالبرنامج الذي انتُخب من أجله.
الجمهورية الديمقراطية الشعبية هي أيضا دولة مدنية علمانية تكرّس الحريات العامة والفردية والمساواة بين الأفراد عامة وخاصة بين النساء والرجال وبين الجهات. وهي تضمن حرية المعتقد والضمير والعدالة والمساواة الفعلية لا فقط في القانون بل في الممارسة أساسا. وهذا ممكن ما دامت السلطة في هذه الدولة للشعب دون وصاية.
فلنناضل من أجل الجمهورية الديمقراطية الشعبية بديلا عن منظومات التبعية والاستغلال والفساد.
السلطة للشعب من أجل الديمقراطية الشعبية والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية.