انتهت الانتخابات الأمريكيّة بفوز “الجمهوريّ”، الشّعبويّ اليمينيّ المتطرّف دونالد ترامب، على “الديمقراطيّة” كامالا هاريس بعد حملة انتخابية اعتبرها العديد من الملاحظين من أحطّ إن لم تكن أحطّ الحملات الانتخابية في تاريخ الولايات المتحدة. ففي غياب منافسة جدية بين برامج مختلفة ومتباينة حضر التنافس حول من يكون الأكثر استفزازا وسبّا وشتما للآخر واستعمالا للبذاءة وتحقيرا لهذه الفئة من المجتمع أو تلك وخدمة للرأسمال الاحتكاري الأمريكي وقدرة على تهديد السّلم العالمي. فالمتنافسان هما في نهاية المطاف ممثلان لشقّين من “حزب واحد” مع فروق واختلافات جزئية خاصة في قضايا مجتمعية داخلية وفي أسلوب الحكم الشّخصي. وهذا “الحزب الواحد” هو حزب الرأسمال الاحتكاري الأمريكي بكافة لوبياته التي تسيطر على المجتمع الأمريكي وتستغل عماله وكادحيه وفقراءه وشبابه ونساءه وأقلياته ومهاجريه وتهيمن على جزء كبير من العالم وتنهب ثرواته وتضطهد شعوبه وتسند الرجعيّات التي تحكمه وتشعل الحروب في كلّ مكان وتهدّد السّلم العالمي وتسهم بشكل كبير في تدمير النّظام البيئيّ. وهذه الحالة مستمرّة منذ فترة طويلة غاب فيها على الدوام منافس جدّي مناوئ للرأسمالية المتوحّشة ويمثل بحقّ التقدّم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ويدعو إلى السّلم والإخاء بين الشعوب. وهو ما جعل من الديمقراطية الأمريكية ديمقراطيّة شكليّة يتحكّم فيها المال ولا شيء غير المال ولا مكان فيها لمرشّح أو مرشّحين سواء للرئاسة أو الكونغرس أو مجلس الشيوخ للعمال والكادحين والفقراء.
ينسحب الحزب الديمقراطي إذن من دفة الرئاسة بعد فشل مرشّحته ويعتليها الحزب الجمهوري بعد فوز مرشحه لتستمرّ نفس السياسة الرأسمالية المتوحشة في الداخل والهيمنية والعدوانيّة في الخارج بأشكال ربّما أكثر تطرّفا وعنجهية وانفلاتا مرتبطة بالطبيعة الشعبوية اليمينية المتطرفة والعنصريّة للعائد إلى البيت الأبيض في سياق عالمي يتميّز بصعود الحركات اليمينية المتطرفة والفاشية في العديد من البلدان ومن بينها البلدان الرأسمالية الغربيّة. وما من شكّ في أن الأنظار ستكون موجهة خاصة في منطقتنا وفي الوطن العربي إلى الطريقة التي سيتعاطى بها دونالد ترامب مع حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عام والتي تشارك فيها الولايات المتحدة بقيادة بايدن “الديمقراطي” بشكل مباشر إلى جانب الكيان الصهيوني وكذلك مع العدوان الهمجيّ على لبنان. ومن المؤكّد أنه من الوهم انتظار تغيير مهمّ في سياسة دونالد ترامب المنحازة كليّا للكيان وهو الذي بيّن تأييدا أشدّ في عهدته السابقة لهذا الكيان النازي مع علم أنّه صاحب “اتفاقيات أبراهم” التي تهدف إلى قبر القضية الفلسطينية وجرّ أنظمة العمالة وفي مقدمتها نظاما آل سعود والمخزن المغربي إلى التطبيع مع الكيان وفرض تفوقه في المنطقة وبعث تحالف يكون هو محوره لقيادة المواجهة مع إيران التي انسحبت واشنطن في عهد ترامب من الاتفاق النووي معها، ومع الأنظمة الخارجة عن الصف الأمريكي ومحاصرة التمدّد الصيني الروسي في المنطقة. كما لا ننسى أنّ ترامب هو الذي اعترف بالقدس عاصمة للكيان ونقل السفارة الأمريكية إليها. وهو ما يفسّر مسارعة المجرم نتانياهو بالتهليل بعودة ترامب إلى البيت الأبيض.
وبطبيعة الحال لا ينتظر أيضا “تهدئة” في الأوضاع الدولية سواء تعلق الأمر بالوضع في أوروبا والحرب بين روسيا وأوكرانيا أو في بحر الصين. فربما تطرأ بعض التعديلات الجزئية في إطار نفس السياسة الأمريكية العدوانية التي تريد المحافظة على مصالح “الإمبراطورية” في وجه القوى الامبريالية الصاعدة وفي مقدمتها الصين وروسيا وحتى في وجه الاتحاد الأوروبي. ففي عهدته السابقة كان ترامب أشد عداء للصين وأكثر مناورة مع روسيا بوتين. كما كان ضاغطا على الاتحاد الأوروبي الذي يبحث عن إضعافه داخليا ليسهل على الولايات المتحدة اختراقه. ولا ننسى خروج ترامب أيضا من بعض المعاهدات الدولية وهو منقاد بنزعة قومية انعزالية ومن بين هذه المعاهدات اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 بشأن التخفيف من آثار التغيّر المناخي معتبرا أن من شأن هذه الاتفاقيّة أن “تقوّض” الاقتصاد الأمريكي. وبالإضافة إلى ذلك فقد ألغى ترامب في عهدته السابقة اتفاقيات أوباما مع كوبا وشدّد الحصار الإجرامي عليها وهو ما استمر فيه “الديمقراطي” بايدن. كما اتبع ترامب في نفس الفترة سياسة عدوانية استفزازية مع فنزويلا ووصل به الأمر إلى التهديد بالتدخل العسكري. وبشكل عام فإن عودة ترامب الشّعبوي المغامر إلى البيت الأبيض لن تزيد العالم إلا اضطرابا وفوضى وتفاقم المخاطر على السلم العالمي وعلى أمّنا الأرض. أمّا في داخل الولايات المتحدة فإن هذه العودة ستفاقم الأوضاع المتردية أصلا للطبقات والفئات الكادحة والأقليات وتعمّق العنصرية وتضرب بعض المكتسبات الاجتماعية للنساء بسبب الطابع المحافظ والموغل في الرجعية لدونالد ترامب.
إن شعوب العالم ومن بينها الشعوب العربية مطالبة بمواصلة النضال ضد الامبريالية الأمريكية المجرمة. ومن الواجب مواصلة وضع وقف حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني بمشاركة أمريكية مباشرة على رأس الأولويات. وما من شك أن الشعب الأمريكي وقواه التقدمية تلقى عليه المسؤولية الأولى في مواجهة مجرميه وفي مقدمتها شاغل البيت الأبيض. إن الأمل يبقى قائما في الشباب الأمريكي وخاصة الطلابي منه لمواصلة الضغط انتصارا لغزة وللشعب الفلسطيني. أمّا في تونس فإننا مطالبون بتطوير التحركات دعما للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة وكذلك للشعب اللبناني ومقاومته عبر الاحتجاج على الامبريالي الأمريكي والمطالبة بطرد سفيره وإلغاء الاتفاقيات المهينة وغير المتكافئة معه وفرض تجريم التطبيع مع الكيان الغاصب.
لم يخطئ مطلقا الزعيم الكوبي الراحل فيدال كاسترو حين أجاب سنة 1960 عن سؤال : أيّ من المرشحين للانتخابات الرئاسية يفضّل “الديمقراطي” كينيدي أو “الجمهوري” نيكسون، بالقول: “لا يمكن المفاضلة بين فردتي حذاء يلبسهما نفس الشخص”. إن الإدارة الأمريكية تبقى ممثلة الرأسمال الاحتكاري الأمريكي مهما كان الشخص الذي يرأسها ولن تتغيّر الحالة إلا بتقويض هذا النظام نهائيّا.
الرئيسية / الافتتاحية / بعد فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية: لا مفاضلة بين الطاعون والكوليرا