بقلم علي الجلولي
عاد الجدل في بعض أوساط النخبة والشعب حول علاقة السلطة الحاكمة اليوم بما يسمى الأخلاق الحميدة، هذا اللفظ/المصطلح الذي تتداخل فيه الأبعاد الاجتماعية مع الثقافية وصولا إلى القانونية، ويرتبط هذا اللفظ في الذهنية السائدة في بلادنا منذ عقود بالزجر وتدخل الأجهزة العنيفة للدولة. ويتداخل الأمر عند حزام الشعبوية مع معجم الحرب المعلنة على الفساد، هذا الداء الذي يعتبر المظهر الأكبر فجاجة للسقوط الأخلاقي.
إن هذه الرؤية ذات الخلفية الفكرية المثالية والمضمون الاجتماعي الديماغوجي تريد أن تتغذى من أزمة المجتمع وانحدار القيم دون المس من أسسها وأسبابها الفعلية والحقيقية التي ترتبط بالواقع المادي والمعيش للناس وللطبقات الاجتماعية.
إن الشعبوية كظاهرة تنتشر اليوم وتتمدد عالميا وتستولي على الحكم في عديد بلدان المركز (وآخرها الولايات المتحدة الأمريكية بوصول ترامب إلى سدة الحكم) والأطراف كإجابة على عمق أزمة الرأسمالية العالمية إنما تستثمر في أزمة الأخلاق وانحدار القيم وذلك في أفق البروز كقوة إصلاح لما طال المجتمع من تدهور وانحطاط. إن الخلفية الايديولوجية المحافظة والتقليدية لمجمل التيارات الشعبوية اليمينية إنما تهدف إلى مزيد مغالطة الجمهور الواسع أن سبب بؤسه وشقائه ليس في المنظومة السائدة وخياراتها الطبقية الاستغلالية التي تنمي الاغتراب وتعمقه، بل في التخلي عن “الأخلاق الحميدة” و”القيم الفاضلة والأصيلة” المرتبطة بالعائلة كفضاء تقليدي وبالأبوية/البطرياركية كتجسيد للعلاقات العمودية ذات المضمون الذكوري القهري وبالدين كإطار للممارسة الأخلاقية وتأصيلها.
إن الحل لهذه الأزمة حسب الشعبوية لا يمكن أن يكون إلا بالعودة لهذه الينابيع والحواضن وهو ما يجد هوى عند الفئات الأكثر محافظة والأكثر هشاشة اجتماعيا وثقافيا وهو ما يبدو اليوم بجلاء في الانخراط في جوقة المغالطة الشعبوية التي تسخّن لحملة حول الأخلاق الحميدة اتخذت غطاء لاستهداف بعض “صانعات وصناع المحتوى” و”نشطاء الانستغرام” المنخرطين في أنشطة مشبوهة ومدانة وذات مضمون رجعي يسلعن البشر ويدوس كرامته، لكن العديد يعون أن السياق الذي تتنزل فيه هذه الحملة الأخلاقوية إنما هو سياق التصفية المنهجية لما تبقى من حريات.
إن معالجة السلطة لمظاهر الانحلال الأخلاقي ظلت على العموم معالجة قاصرة لأنها اكتفت بالمعالجة القمعية الأمنية والقضائية، وهي معالجة لن تذهب بعيدا في أخلقة المجتمع ولا فضاءاته المتعددة مثل الفضاء الاتصالي طالما لم تتجه إلى الأسباب العميقة للتدهور القيمي.
إن التدهور المريع للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب تشكل اليوم القاعدة المادية لمناصرة جزء من المجتمع للمعالجة الشعبوية التي تركز على الخطاب الأخلاقوي ذي الاتجاه القمعي تنفيسا وهميا عن أزمة تتعمق ولن ترى أفقا ولا حلا إلا من خلال معالجات اجتماعية ثورية لا ترى في الأخلاق إلا انعكاسا لما يجدّ في الواقع المادي للناس.
إن مخاطبة وجدان الجمهور وزوايا ذهنيته الأكثر رجعية هو فعل مقصود من قبل الحكم الشعبوي وزبانيته لمزيد تخدير الجمهور وإلهائه. إن الخطاب الذي يعتمده سعيد ويعوّل عليه هو خطاب أخلاقوي طهوري ملائكي تعففي عبّأ حوله جزء من الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة وتهميشا وأيضا الفئات الأكثر محافظة ورجعية وذلك كقاعدة اجتماعية داعمة وحاضنة لمشروعه السياسي الذي يعبّر عنه دستوره وترسانة قوانينه وجملة قراراته المسيجة بخطاب تحريضي.
إن المنعرج الشعبوي خطابا وممارسة في بلادنا يشبه حدّ التطابق أحيانا المسارات الشعبوية التي عاشتها أو تعيشها بلدان أخرى، والتجارب تؤكد أن قدرة الشعبوية المحافظة على التحكم والمغالطة تبقى محدودة لأن الديماغوجيا المعتمدة من قبلها لا تحل مشاكل الشعب ولا معضلات المجتمع بل تعمقها.
إن مشاكل شعب تونس لن تحلّ بالخطاب الأخلاقوي الرجعي، بل بالإجراءات الفعلية والميدانية. واستهداف وسائل التواصل الاجتماعي والتهديد بغلقها ليس هدفه حماية القيم بل هدفه ضرب الحريات والتضييق عليها مثلما فعلت الدكتاتورية الدستورية قبل الثورة و تفعل الدكتاتورية الزاحفة التي تعتمد المعجم الأخلاقوي لمصادرة الحقوق وهي المسؤولة أولا وأخيرا عن تدهور القيم وانحرافها نحو الفردانية والأنانية وعقلية تدبير الرأس والتحيل والنفاق والتفصّي من كل ما هو اجتماعي و متنور.
إن أزمة القيم هي انعكاس لأزمة الخيارات اللاوطنية واللاشعبية السائدة منذ عقود والتي تحافظ عليها المنظومة الشعبوية باعتبار الخلفية الطبقية الواحدة لحكام الأمس واليوم.
أمّا المعالجة السليمة لأزمة القيم في بلادنا فلن تكون إلا من خلال ضرب القاعدة المادية المنتجة للتدهور وخلق ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية مغايرة تعزز القيم الجماعية التقدمية والمتنورة.