بقلم علي الجلولي
انشغل الرأي العام خلال الأسبوع الجاري بالبلاغ الصادر عن وزارة التربية بتاريخ 12 نوفمبر 2024 والخاص بـ”ضرورة التقيد بمقتضيات الأمر عدد 1619 لسنة 2015 المتعلق بضبط شروط تنظيم دروس الدعم والدروس الخصوصية داخل فضاء المؤسسات التربوية العمومية”. وقد استعاد هذا اللغط معجما أصبح متواترا في السنوات الأخيرة وهو المعجم الذي يستهدف المربين من معلمين وأساتذة وينال من كرامتهم وسمعتهم ويقدمهم على أنهم وحوش كاسرة لا همّ لهم إلا سلب أموال التلاميذ والأولياء. وككل مرة يتغافل اللغط الغوغائي عن التطرق للسياسة التربوية وأوضاع المؤسسة التربوية ومنتسبيها ومن بينهم المدرسون.
سياق حملة تبخيس المدرسين
لقد دأبت السلطة وخاصة مع الحكم الشعبوي على إلهاء الرأي العام بمحاور انشغال تحرك فيه النزعات الأكثر رجعية وأحيانا الأكثر عدوانية حتى ضد نفسه وضد مكونات منه. ولا نعتقد أن صدور بلاغ وزارة التربية في هذا التوقيت بالذات حيث تتعالى أصوات المدرسين ونقاباتهم بالوضع الكارثي الذي بلغته المؤسسة التربوية وخاصة ما يهم النقص الرهيب في “اليد العاملة التربوية”، فحسب جامعة التعليم الثانوي تجاوز النقص في التعليمين الإعدادي والثانوي الـ12 ألف مدرسا بما يعني حرمان آلاف التلاميذ من التعلم، ويطال الأمر حتى تلاميذ الأقسام النهائية، وقد وصل اعتماد سلطة الإشراف على “النواب” حدوده القصوى سواء من جهة عدم تمكن العدد المنتدب منهم من تأمين المطلوب خاصة بخروج أعداد كبيرة من المدرسين إلى التقاعد، علما وأن قانون المالية الجديد استعاد الحث على التقاعد المبكر بالنسبة للموظفين بمن فيهم المدرسين وهو ما يعني شغورا جديدا لن يتم تأمينه تطبيقا لتوصيات صناديق النهب الدولية التي تدّعي السلطة عدم الخضوع لها، لكن الوقائع العنيدة تسفّه دعاوي السلطة وأزلامها. أمّا عن بقية أوجه سير المؤسسة التربوية فهي تعرف تدهورا غير مسبوق من جهة البنية الأساسية التي شملت حتى الشروط الأولية مثل الماء الصالح للشرب ووسائل النسخ فضلا عن القاعات النظيفة والصالحة للتمدرس بحكم عدم وجود عملة في عديد المؤسسات. لقد أصبح الفضاء التربوي فضاء منفّرا ومرتعا للعنف والمخدرات والتسرب والإخفاق، والتحقت أعداد متصاعدة من التلاميذ بالتعليم الخاص الذي تحوّل من استقطاب التلاميذ “الفاشلين” الذين “كثر رسوبهم وتضاءلت معدلاتهم وساء سلوكهم” إلى استقطاب التلاميذ الأكثر تميّزا، وانتشرت في المدن الكبرى والصغرى فئة جديدة من مؤسسات التعليم الخاص لا علاقة لها بـ”المدارس الحرة” التي سادت في العقود الماضية، بل هي “مدارس خمسة نجوم” تختار جمهورها من ذوي النتائج المتميّزة والطيبة وذوي القدرة على الدفع السخي، ولأن الفئات الوسطى في تونس ما زالت تعطي مكانة هامة للتمدرس بحثا عن آفاق مهنية واجتماعية تؤمن المستقبل الشخصي والعائلي، فقد انسحبت عديد العائلات من التعليم العمومي وألحقت أبناءها بالتعليم الخاص ذي الآفاق الواعدة.
إن الإقرار بأزمة المدرسة العمومية لم تعد قناعة ضئيلة لجمهور معارض للدولة، بل أصبحت اليوم قناعة مشتركة وواسعة في مجتمعنا. وعوض الاتجاه إلى معالجة هذه الأزمة ومباشرة أسبابها وفتح حوار مع أهل القطاع التربوي، اتجهت السلطة ـ ككل مرة ـ إلى توجيه الأعين والأذهان إلى وجه ثانوي من أزمة المدرسة وهو الدروس الخصوصية وتهديد المدرسين بالإجراءات الزجرية في حال تنظيم دروس خصوصية خارج المؤسسة التعليمية العمومية.
الدروس الخصوصية دليل على فشل المنظومة التربوية وعجزها
عوض الإجابة عن سؤال: لماذا يلجأ التلاميذ وأولياؤهم بكثافة إلى الدروس الخصوصية؟ تجنح السلطة إلى عدم طرح هذا السؤال أصلا وتهدد المدرسين بالإجراءات الإدارية (الإيقاف التحفظي عن العمل والإحالة على مجلس التأديب) وحتى بالتتبع العدلي. إن الغرض من هذه الحملة هو استدار تعاطف الجمهور في إطار غوغائية شعبوية تشمل اليوم غلاء الأسعار وندرة مواد الاستهلاك وها هي تتجه أيضا إلى الدروس الخصوصية التي تتزامن مع حملة تبخيس وإهانة ومسّ من اعتبار المدرسين.
إن تنامي ظاهرة الدروس الخصوصية هي دليل قطعي على فشل المنظومة التعليمية السائدة، فما يعلمه جميع متابعي الشأن التربوي في تونس هو كون الساعات الرسمية عاجزة عن إكمال البرامج المكثفة، بل ثمة من له قناعة أن البرامج الرسمية صيغت بما يؤمن الالتجاء للدروس الخصوصية التي أصبحت سوقا بأتمّ معنى الكلمة، خاضعة لقانون العرض والطلب، تباع السلعة (الدروس) وتشترى ارتباطا بالقدرة على الدفع. وهي سوق يخترقها التنافس القوي بين مسدي الخدمة (المدرسين) ومتلقيها (التلاميذ وأوليائهم)، وأصبح التمتع بها مجالا لإبراز الوجاهة الاجتماعية والقدرة المادية. وضمن هذه السوق ضاع الضعفاء من التلاميذ والأولياء كما هُمّش المدرسون ذوي الضمائر. اللافت أن أعداد المدرسين الذين يقدمون الدروس الخصوصية بصدد التناسل والتضاعف وذلك لأسباب مادية بحتة تتعلق بالتدهور المريع لأوضاعهم المادية والاجتماعية والتي ألحقتهم بالفئات الأكثر فقرا والأكثر خصاصة. لقد اضطر عديد المدرسين إلى الالتحاق بمهن أخرى مثل العمل في العطل أو ليلا لقناعة أن الاكتفاء بالجراية الخاصة بالمدرس يجعله عاجزا عن تأمين الأدنى من حاجياته. وضمن التوجه لأعمال أخرى اتجه البعض إلى الدروس الخصوصية كما انحدر البعض إلى ممارسات غير تربوية مثل الضغط على التلاميذ وأوليائهم أو المقايضة بالأعداد، وهي ممارسات شاذة شوهت سمعة القطاع التربوي رغم انخراط عديد القطاعات فيه مثل القطاع الطبي وغيره.
وجب التنويه إلى رياء السلطة التي تصدر بلاغا للتذكير بمنشور منع الدروس الخصوصية خارج الفضاء التربوي، وفي الآن ذاته يقوم المنشور بتنظيم الدروس الخصوصية داخل المؤسسة، وهي دروس تقدم بمقابل مالي محدد (35د و45د) بما يضرب مبدأي مجانية التعليم وتكافؤ الفرص، فعديد التلاميذ عاجزون عن تأمين معاليم أكثر من مادة هم في حاجة إلى دروس إضافية فيها.
الإصلاح الجذري للمنظومة التربوية هو الحل
إن الاتجاه الزجري التي تتجه إليه السلطة لن يحل مشاكل القطاع التربوي، علما وأن المنشور الذي تعتمده اليوم في حملتها هو منشور صدر منذ 2015 وتزامن حينها مع حملة شيطنة للمدرسين، وها هي وزارة الإشراف تسحبه من الدرج لتخويف المدرسين وفرض محور اهتمام عليهم يلهيهم عن طرح الملفات الكبرى التي تهم ضرورة الإصلاح الجذري للمنظومة التربوية القائمة التي تثبت الدراسات المخفية في ذات الأدراج في وزارة التربية فشلها وعجزها في مختلف تفاصيلها من البرامج والمضامين والزمن المدرسي إلى هيكلة التعليم والتوجيه المدرسي والجامعي والانفصال بين درجاته وبين التكوين. إن هذه المشاغل لا يبدو أن السلطة معنية بها ولا هي من اهتماماتها وأولوياتها. إن الشعبوية في تونس كما في العالم تستفيد من تهميش التعليم وفاعليه وتستهدفهم باعتبارهم جزء من النخبة التي تعاديها بطبعها، وذلك لحساب فاعلين آخرين توظفهم لتأبيد سيطرتها.