الرئيسية / صوت الوطن / الأراضي الدولية الذاكرة الجماعية لتونس الأعماق (الجزء الأول)
الأراضي الدولية الذاكرة الجماعية لتونس الأعماق (الجزء الأول)

الأراضي الدولية الذاكرة الجماعية لتونس الأعماق (الجزء الأول)

بقلم مرتضى العبيدي

من بين الملفات التي نفضت عنها “ثورة الحرية والكرامة” الغبار ملف الأراضي الدولية، الذي كثر حوله اللغط شعبيا ورسميا غداة الثورة المغدورة، وأجّجته تجربة “هنشير المعمّر” في جمنة، التي حوّلت هذه القرية إلى مزار لآلاف التونسيين والتونسيات وكذلك للعديد من الناشطين الأجانب (صحافيين، نشطاء سياسيين وجمعويين، باحثين، فنانين…) جاؤوا لشدّ أزر الأهالي والتعبير عن مساندتهم لهم فيما أقدموا عليه من إنجاز غير مسبوق. وقد تمخّضت عن هذا الحراك عديد التصوّرات قوبلت بالرفض من قبل الحكومات المتعاقبة التي سعت إلى فرض تصوّرها الوحيد على الأهالي والمتمثل في إجهاض التجربة في المهد وإعادة الضيعة إلى أملاك الدولة، لكنها لم تُفلح وبقيت عديد القضايا عالقة.
واليوم تعود قضية الأراضي الدولية على السطح، لكن في سياق يختلف تماما عن السياق الأول، هو سياق “حرب التحرير” التي يخوضها الرئيس قيس سعيد بمفرده ضدّ كل شيء، ضد الفساد واللوبيات التي لم نرَ منها إلى حدّ الآن إلاّ تزايد عدد بطاقات الإيداع بالسجن إثر كل زيارة. ونظرا إلى أنّ حجم الأراضي الدولية أو ما تبقّى منها كبير، فإنّ لا أحد يتصوّر التطوّرات اللاحقة لهذا الملف خاصة وأنّ السلطة لم تفصح عن أيّ تصوّر بديل للتصرّف في هذا الملك العمومي عدا بعض الإشاعات عن إمكانية تسليم أقساط منها إلى “الشركات الأهلية” التي يراهن الرئيس على جعلها ركيزة من ركائز تعميم الرفاه الموعود وملء خزائن الدولة بالأموال التي لن تذهب مجددا في جيوب الفاسدين واللوبيات بل ستعود بالخير العميم فقط على الشعب الذي يريد.
لكن لنبدأ من البداية حتى نفهم ما هي “الأراضي الدولية” محلّ الاهتمام اليوم، وكيف تشكّلت عبر التاريخ الحديث للبلاد، وما هو حجمها الحقيقي، وكيف تم استعمالها في مختلف الحقب التاريخية، وصولا إلى توصيف وضعها الحالي الذي يجعل منها معضلة فعلية تؤرّق الحكام والمحكومين.

من “الأراضي الميري” إلى “الأراضي الدولية”

بعد تقلص مداخيل الدولة من غنائم الحروب والقرصنة وموارد التجارة، أولت الطبقات الحاكمة اهتمامها إلى القطاع الفلاحي الذي سيصبح النشاط الرئيسي لتوفير الموارد للدولة، حيث سارعت السلطات القائمة آنذاك إلى الاستحواذ على الأراضي إمّا لفائدة بيت مال المسلمين أو لفائدة “الأمير”، فتصبح الأراضي المستولى عليها أراضي “ميري” يتصرّف فيها الأمير كما يحلو له، فيهبها لمن يشاء من بطانته على أن يتولّوا جمع الجباية من أصحابها المقيمين فوقها والذين ترتبط حياتهم باستغلالها منذ غابر الزمان. وهي الطريقة التي مكنت البايات في العهد الحسيني من الاستحواذ على أخصب الأراضي و”الهناشر” مستعملين كل الحيل القانونية وغير القانونية والفتاوى. وهو نفس السلوك الذي سيستعمله المستعمر الفرنسي لوضع يده على أخصب أراضي البلاد في الحقبة الاستعمارية. ولعل قصة هنشير النفيضة حريّة بأن نخصّص لها حيّزا ولو ضئيلا من هذا المقال نظرا لرمزيتها ولمكانة هذه الضيعة في الرصيد العقاري للبلاد التونسية واستغلالها من قبل أنظمة الحكم المتعاقبة لهذا الغرض أو ذاك.

قصّة هنشير النفيضة تختزل تاريخ الأراضي الدولية

هذا العقار الذي يمتدّ اليوم على خمس معتمديات من ولاية سوسة (بوفيشة، النفيضة، كندار، سيدي بوعلي والقلعة الكبرى) والذي كان يمسح في وقت ما قرابة 100 ألف هكتار عرف عبر التاريخ تقلبات مهمّة من حيث ملكيته وطرق استغلاله. ذكرنا أن الرصيد العقاري الذي استولى عليه بايات تونس عبر السنين شمل أخصب الأراضي التونسية، وكانوا طليقي الأيدي في التصرّف فيه، من ذلك أن أحد البايات “وهبه” لأصحابه الشرعيين الذين كانوا يقيمون على أراضيه الشاسعة والمنتمين لعرش أولاد سعيد. لكن خلفه أحمد باي تراجع في الهبة نظرا لمناوئة هذه القبيلة لسلطانه فانتزعه منهم. فتحوّل أصحاب الأرض التاريخيين والفعليين إلى متسوّغين يدفعون معاليم كراء لمن مكنته “السلطة العلية” من الاستيلاء على أرضهم.
ولمّا عجزت الدولة عن الإيفاء بالتزامها بسداد أقساط الجراية العمرية لوزيرها الأكبر خيرالدين باشا، منحه الباي سنة 1873 هنشير النفيضة تعويضا له. ولمّا ساءت علاقة هذا الأخير مع محمد الصادق باي، قرّر مغادرة البلاد فباع، سنة 1880، العقار المذكور إلى “الشركة المرسيلية للقرض” (Société marseillaise de crédit)، إحدى أكثر المؤسسات المالية تمويلا للحملات الاستعمارية الفرنسية دون استشارة أصحاب الحق أو حتى مجرّد إعلامهم. ويعتبر بعض المؤرخين أن هذا الصنيع وفّر إحدى الذرائع التي كانت فرنسا الاستعمارية تنتظرها لبسط نفوذها على تونس وتؤمّن بذلك الحدود الشرقية للجزائر المستعمرة منذ نصف قرن. فما كان من الدولة الفرنسية إلا أن طالبت حكومة الباي بالتدخل لحماية ممتلكاتها على التراب التونسي. وكان هنشير النفيضة من أُولاها، لكن هذه الممتلكات ستتعزز شيئا فشيئا مع توسّع النفوذ الفرنسي في البلاد بشتى الطرق، خاصة بعد سنّ القانون العقاري في غرّة جويلية 1885 الذي يمكّن الفرنسيين من تخطّي عقبة القوانين التونسية المعتمدة والتي قد تعرقل بشكل أو بآخر تملّك الأجانب للأراضي التونسية. وقد تلا صدور هذا القانون تنظيم موجات من الهجرة إلى تونس وتمكين الوافدين الجدد من الأراضي المستحوذ عليها ليصبحوا “معمّرين”. وقد بلغ حجم الأراضي التي استولى عليها هؤلاء طوال الحقبة الاستعمارية 715 ألف هكتار من الأراضي الخصبة، وُزّعت على 4500 معمّر فرنسي يضاف إليها 70 ألف هكتار اقتناها أوروبيون من جنسيات أخرى، فيكون المجموع 785 هكتار من جملة 7500 ألف هكتار أراض صالحة للزراعة، وهي المساحات المعنية بالتأميم عشية 12 ماي 1964، تاريخ صدور القانون الذي يُصطلح على تسميته بقانون الجلاء الزراعي، قياسا بالجلاء العسكري الذي تمّ في 15 أكتوبر 1963.
لكن ماذا كان ثمن استرجاع هذه الأراضي وهل أعيدت لأصحابها الشرعيين الذين افتكّها منهم المستعمر إن بالقوة أو بالتحايل على القوانين المحلية أو بإصدار قوانين جديدة تجسّد تفوّق سلطة المستعمر على سلطة البايات؟

مراحل استرجاع الأراضي من المعمّرين

لم يتمّ تأميم الأراضي التي كان يستحوذ عليها المعمّرون دفعة واحدة بل حصلت العملية على مراحل (وسياسة المراحل كانت محبّبة لقلب “المجاهد الأكبر”)، إذ شرع المعمّرون المقيمون في المناطق الحدودية، عند احتداد حرب التحرير الوطني في الجزائر، في بيع مستغلاتهم لكبار الفلاحين التونسيين، ممّا جعل فرنسا تتدخل لحماية مصالحهم بتقنين العملية في بروتوكول بين البلدين أمضي يوم 8 ماي 1957. وقد كانت حصيلة هذه العملية شراء 167 ألف هكتار، 127 ألف من قبل الدولة التونسية و40 ألف من قبل كبار الملاكين.
وفي مرحلة ثانية، أصدرت الدولة التونسية سنة 1959 قانونا يخوّل لها افتكاك “الأراضي المهملة”، وكانت الأراضي المستهدفة تلك التي تركها “مالكوها” دون أيّ نشاط فلاحي ممّا تسبّب في تقليص الإنتاج بصفة محسوسة، إذ ينصّ القانون على “حجز العقارات الفلاحية المهملة أو الناقصة استغلالا”. لكن تدخّل الحكومة الفرنسية حال دون تطبيق هذا القانون بصفة معمّمة، فلم يشمل في النهاية إلاّ 75 ألف هكتار.
ولحماية منظوريها من قانون الحجز، سارعت الحكومة الفرنسية باقتراح بروتوكولين يقنّنان عملية نقل “الأراضي الفلاحية للفرنسيين” إلى الدولة التونسية، أي بيعها لها مقابل مبالغ طائلة (يذكر أنّ الدولة التونسية اشترت هذه الأراضي بمعدّل عشرة آلاف دينار للهكتار الواحد بينما كان معدّل ثمن الهكتار الواحد السقوي في شمال تونس في ذلك الوقت لا يتجاوز ألف دينار). وقد مكّن هذا الإجراء الدولة التونسية من شراء 150 ألف هكتار.
بحيث أنه عند إمضاء بورقيبة على “قانون الجلاء الزراعي” في 12 ماي 1964، وفي قصر باردو، وعلى نفس الطاولة التي أمضى عليها الصادق باي “معاهدة الحماية”، كانت معظم الأراضي التي كانت بحوزة المعمرين الفرنسيين قد تمّ استرجاعها بعدُ عن طريق الشراء. وهو ما سيتواصل بخصوص الأراضي العائدة بمقتضى قانون 12 ماي 1964، والتي تبلغ مساحتها 300 ألف هكتار.
لكن ماذا كان مصير هذه الأراضي المسترجعة؟ ماذا فعلت بها الدولة التونسية عبر مختلف مراحل تطوّرها؟ ماذا بقي منها اليوم؟ ما الذي أوصلها إلى الحالة التي هي عليها اليوم؟ وغيرها كثير، وهو ما سنحاول الإجابة عنه في الجزء الثاني من هذا المقال.

(يتبع)

إلى الأعلى
×