الرئيسية / صوت العالم / اتفاقيات التبادل الحرّ بين الاتحاد الأوروبي والمركوسور: تكريس لليبرالية المتوحشة ولقانون الغاب
اتفاقيات التبادل الحرّ بين الاتحاد الأوروبي والمركوسور: تكريس لليبرالية المتوحشة ولقانون الغاب

اتفاقيات التبادل الحرّ بين الاتحاد الأوروبي والمركوسور: تكريس لليبرالية المتوحشة ولقانون الغاب

بقلم وليد بالضيافي

تداولت العديد من وسائل الإعلام رغبة الاتحاد الأوروبي التسريع في تفعيل اتفاقية التبادل الحر بين الاتحاد والسوق المشتركة لدول الجنوب (MERCOSUR). هذا الخبر أثار حفيظة العديد من الأطراف وسجلت عودة احتجاجات الفلاحين خصوصا في فرنسا والبرازيل أين نظمت حركة العمال دون أرض (MST) محاكمة شعبية بمناسبة انعقاد قمة العشرين الاجتماعية (G20 social) حضرها أكثر من ألف شخص تدخل فيها صغار الفلاحين لفضح الطابع الاستعماري والاستغلالي لها.
ويعدّ هذا الاتفاق من أضخم الاتفاقيات التجارية للاتحاد الأوروبي التي يبلغ عدد سكانه قرابة 450 مليون نسمة بينما يبلغ عدد سكان دول السوق المشتركة لدول الجنوب الخمسة (الأرجنتين، البرازيل، البرغواي، الأوروغواي وبوليفيا) أكثر من 250 مليون نسمة. لكنه جوبه برفض شعبي كبير نظرا لانعكاساته السلبية على الوضع البيئي والاجتماعي في المنطقتين.

صغار الفلاحين والعمال الفلاحيين أكبر المتضررين

تعدّ المواد الفلاحية ومشتقاتها من أهم السلع المشمولة بهذه الاتفاقية. حيث تتمتع نسبة من اللحوم المستوردة من دول الجنوب بأداءات ديوانية منخفضة. في المقابل تتمتع اللحوم الأوروبية بدعم السياسة الفلاحية المشتركة (PAC) التي يستأثر بها كبار الفلاحين. لتحافظ اللحوم الجنوبية على قدرتها التنافسية والضغط على الكلفة تستعمل أساليب إنتاج كمية (production de masse) مع الضغط على أجور العمال وظروف عمل قاسية تصل إلى حدّ العبودية في بعض الأحيان. فبالإضافة إلى تأثيره السلبي على العمال الفلاحيين فإنه يساهم في اندثار الضيعات الصغرى لعدم قدرتها على منافسة كبار الفلاحين. في فرنسا مثلا والتي تعدّ الفلاحة ركيزة من ركائز اقتصادها تراجع عدد الفلاحين فيها من 1.6 مليون فلاح سنة 1986 إلى 400 ألف فلاح سنة 2019 وعدد العمال الفلاحيين من 310 ألف إلى 250 ألف في نفس الفترة حسب المعهد الفرنسي للإحصاء (INSEE) وهو رقم مرشح للارتفاع مع إمضاء العديد من اتفاقيات التبادل الحر.
إضافة إلى ذلك فإن هذا الاتفاق يعرقل تطور الصناعات التحويلية للمواد الفلاحية في دول الجنوب، فمثلا ينص الاتفاق على تخفيض أو رفع الأداءات على الشكولاطة الأوروبية. تتأتى الشكولاطة من حبوب الكاكاو التي تم اكتشافها في أمريكا الوسطى (المكسيك حاليا). أنتجت البرازيل مثلا أكثر من 800 ألف طن من الكاكاو سنة 2023 بينما تنتج أوروبا صفر طن من هذه المادة في حين تحل أربعة دول أوروبية (ألمانيا، بلجيكيا، إيطاليا وبولونيا) المراكز الأولى في تحويل وإنتاج الشكولاطة. بلغ سعر الكيلوغرام الواحد من الكاكاو الخام 2.2 يورو سنة 2024 (وهو أعلى سعر مسجل) بينما يبلغ متوسط سعر الشوكولاطة بين 10 و15 يورو للكيلوغرام ويمكنه بلوغ أرقام قياسية تفوق المائة يورو. تستغل الشركات الأوروبية هذه الاتفاقية والهيمنة الاستعمارية لدولها على دول الجنوب (كساحل العاج وغينيا…) للحصول على أسعار كاكاو تفاضلية تساعدها على إغراق أسواق أمريكا الجنوبية بهذه السلعة مما يعرقل تكوين صناعات تحويلية فيها (أمريكا الجنوبية) للكاكاو والاستفادة من القيمة المضافة المنجرة عن عملية التصنيع.

أضرار بيئية جسيمة

يشجع هذا الاتفاق على نمط إنتاج كمي مدمّر للبيئة ويمثل خطرا على صحة السكان. حيث أكد تقرير قامت به الحكومة الفرنسية أن الاتفاق سيتسبب في فقدان 5% من المساحات الغابية في بلدان الجنوب خلال الست سنوات الأولى لتنفيذه، ممّا يشكل تهديدا للتنوع البيولوجي وعلى السكان الأصليين حيث يرتبط نمط عيشهم بإيقاع عيش الغابة. من ناحية أخرى فإن نمط الإنتاج الكمي للمنتوجات الفلاحية يتميز باستعمال مكثف للمواد الكيميائية وهرمونات النمو (hormones de croissance) والمضادات الحيوية (les antibiotiques) ممّا يزيد من أرباح منتجي المواد الكيميائية مقابل التأثير على صحة المستهلكين والعمال. زد على ذلك أن تطور التبادل التجاري بين أوروبا ودول الجنوب سيرفع حركة النقل البحري والجوي بين هذه الدول (والمسافة بينهم كبيرة) ممّا سيضاعف إفرازات ثاني أكسيد الكربون التي سترتفع وجوبا بارتفاع الإنتاج.
من جهة أخرى تسعى السلطات الأوروبية من خلال هذا الاتفاق إلى إيجاد أسواق جديدة لخردتها. حيث أصدر الاتحاد الأوروبي قرارا بمنع تسويق السيارات ذات المحرك الحراري في حدود 2035، في المقابل تجد الشركات الأوروبية صعوبة في مجابهة السيارات الكهربائية الصينية التي تتمتع بتفوق تكنولوجي فأصبحت تبحث عن أسواق جديدة. صناعة السيارات مشمولة بهذا الاتفاق حيث تتمتع السيارات الأوروبية بتخفيضات جمركية بوجود قوانين أكثر تسامحا يمكّن للسيارات ذات المحرك الحراري الأوروبية من تعزيز تواجدها بالسوق الأمريكية الجنوبية. من جهة أخرى تسعى أوروبا إلى تأمين إمداداتها من المواد المنجمية النادرة المحورية لتحولها الطاقي (transition énergétique)، حيث تزخر أراضي أمريكا الجنوبية بمواد كالليثيوم الذي يمثل مكونا أساسيا في صناعة البطاريات. ويشجع هذا الاتفاق الصناعات الاستخراجية بالرغم من الظروف الصعبة لإنتاجها وتأثيرها السلبي على البيئة.
في الختام يمكننا أن نستشف أسباب الرفض الشعبي لاتفاق التبادل الحر بين الاتحاد الأوروبي ودول السوق المشتركة للجنوب. فمضارّه عديدة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. حتى أن دراسة للحكومة الفرنسية أثبتت أن قيمة الضرر البيئي يمكنها أن تفوق الفائدة المالية. هذه المضار تتحملها الفئات الشعبية أساسا (عمال، صغار فلاحين…) بينما ينتفع كبار الفلاحين والبرجوازيون بالربح المالي. يمكن اعتبار هذا الاتفاق مثالا لكل اتفاقيات التبادل الحر للاتحاد الأوروبي التي يجب التصدي لها، فهي اتفاقيات استعمارية تستفيد منها أساسا البورجوازية الأوروبية لتكديس الثروة. حاولت أوروبا تعميم هذه الاتفاقيات على عديد الدول كتونس مثلا. حيث حاولت سابقا إبرام اتفاقية تبادل حر، الأليكا، الذي لاقى صدا شعبيا كبيرا لكن بعض بنوده أنجزت من خلال إمضاء نظام قيس سعيد على مذكرة التفاهم لسنة 2023.

إلى الأعلى
×