الرئيسية / صوت الوطن / أزمة الزيتون أزمة خيارات
أزمة الزيتون أزمة خيارات

أزمة الزيتون أزمة خيارات

بقلم علي البعزاوي

جرت العادة أن تتمّ مواسم جني الزيتون في بلادنا في كنف الفرح والسعادة فهي مناسبة للفلاح وللعمال الفلاحيين وخاصة العاملات، وللتجار والقشارة أيضا لتجميع ما أمكن من المال لمواجهة مصاعب العيش وتغطية المصاريف وتكاليف الحياة المختلفة وتسديد الديون المتخلدة بالذمة … لكن هذه الصورة غابت للأسف هذا الموسم ليحلّ محلها الخوف والضبابية والتساؤلات المتتالية حول الآفاق ومصير الصابة التي تعتبر قياسية هذا الموسم.
المشهد سوداوي والفلاحون مصدومون بالنظر لسعر البيع المتدني الذي لا يغطي تكاليف الإنتاج خاصة وأنّ 60 بالمائة من الصابة سقوية وتكاليفها باهظة، لذا توقفوا عن الجني في انتظار اتضاح الرؤية لكن الثمار تتساقط وتجفّ فيضطرون لجمعها وبيعها بأبخس الأثمان. فما الذي يحصل حقا وهل من حلول في الأفق؟

حول أسباب الأزمة

ما يردده بعض الفلاحين والمرتبطين بالزيتون وحتى بعض النخب هو أن كبار تجار الزيتون موقوفون على ذمة العدالة وخروجهم من السوق ساهم في تراجع سعر البيع خاصة وأن هؤلاء عارفون بمختلف الأسواق الخارجية وقادرون على تسويق الزيت وحضورهم يساهم في خلق التنافس والديناميكية الضرورية لارتفاع سعر البيع. وهناك من يرى أن الدولة في حالة إفلاس وميزانيتها في حالة عجز وهي تستغل الموسم لسدّ هذه الثغرة وتعبئة ما أمكن من الموارد والتخفيض من الاقتراض. وهناك آراء أخرى تتحدث عن شحّ الأموال التي يمكن أن تضخّها البنوك للمعاصر وللتجار وأنّ هناك صعوبات وتضييق على منح القروض على خلاف ما كان يجري في السابق.
بعض الخبراء من جهتهم يتحدثون عن تراجع في سعر زيت الزيتون على مستوى العالم وعن عزوف المستهلكين في عديد الدول عن شرائه وهو ما أدّى إلى حالة من الركود في الأسواق العالمية. وهذا انعكس سلبا على مستوى الأسعار في الموسم الحالي. ويعتبر هؤلاء أن الانهيار الحاد في سعر زيت الزيتون يعود إلى نشر اللوبيات الداخلية والخارجية للإشاعات حول تراجع الأسعار والهدف هو السعي إلى التحكم في السوق وشراء زيت الزيتون التونسي الذي يعد من أجود الأنواع في العالم بأقل الأثمان. هذا إضافة إلى أنّ هناك أجانب استغلوا الوضع الراهن للاستحواذ على عديد المعاصر في مختلف جهات البلاد لإحكام قبضتهم على القطاع.
اتحاد الفلاحة والصيد البحري بصفاقس الذي دعا إلى وقفة احتجاجية أمام مقر الولاية عبّر عن “رفضه لسياسة تهميش منظومات الإنتاج بمختلف القطاعات الفلاحية وحذر من تواصل تراجع أسعار الزيتون في ظل غياب رؤية واضحة تنظم القطاع، وعدم الالتزام بالأسعار العالمية التي تشهد ارتفاعا في الوقت الحالي”. كما عبّر عن استغرابه من سلوك مصدّري الزيت الذين يقتنون الزيت من المعاصر بأسعار منخفضة جدا وهو ما يعني أن تحديد سعر الزيتون من مشمولات المصدرين وليس الفلاحين الذين باتوا مضطرين إلى مواجهة تدني الأسعار وإكراهات ارتفاع كلفة الإنتاج.
الفلاحون في بعض جهات القيروان – أولاد عاشور وحاجب العيون – قاموا بغلق الطريق احتجاجا على تردي أسعار الزيتون وطالبوا بتدخل الدولة الذي ظل ضعيفا في هذا الملف واكتفى بقرار “فتح التصدير دون قيود” والإذن للديوان الوطني للزيت بشراء الزيت وتخزينه وفق مقاييس محددة. لكن الديوان لا يتوفر على الإمكانيات الضرورية لشراء كميات كبيرة واستيعاب الإنتاج الوطني المقدر هذه السنة بـ340 مليون طن.
هناك أيضا اضطراب في التصريحات إذ أعلنت وزارة الفلاحة في بداية شهر نوفمبر أن أسعار بيع زيت الزيتون المتداولة لسنة 2025 ستتراوح بين 18 و22 دينارا للتر الواحد ليعلن بعد ذلك الديوان الوطني للزيت عن انخفاض في أسعار الزيت بين 14 و18 دينار للتر الواحد مبررا ذلك بتراجع الأسعار على مستوى العالم. لكن الخبير فوزي الزياني يؤكد أنّ أسعار زيت الزيتون في تونس أقل بكثير من الأسعار العالمية المتداولة التي تتراوح بين 8 و10 دولارات للتر الواحد بينما لا يتجاوز السعر في تونس الـ 4 دولارات والمطلوب من وجهة نظره هو تدخل الديوان التونسي للزيت وشراء اللتر الواحد بـ18 دينارا كحد أدنى.
إن الخطر محدق بالجميع: الفلاح أولا، وقد بات مهددا بالإفلاس وربما يضطر إلى التخلي عن الإنتاج، والعمال والعاملات ثانيا لأنهم سيحملون تبعات تراجع السعر بالتخفيض في أجرتهم وهو ما دخل حيز التنفيذ في بعض الجهات إن لم نقل أغلبها والدولة ثالثا التي ستخسر جزءا من مداخيل الصابة من العملة الصعبة (عائدات التصدير) وربّما تخسر قطاعا بأكمله إذا ما تواصلت الأزمة ولم يقع تدخل حاسم وسريع. مع التأكيد على أنّ كل تأخر في جني الصابة سيؤثر سلبا على جودة الزيت.

الحلول ممكنة وليست مستحيلة

أولا لا بدّ من تدخل الدولة بوضع كل الإمكانيات على ذمة الفلاح وأصحاب المعاصر والمصدرين عبر تسهيل منح القروض الضرورية لتخزين الزيت إلى حين تجاوز هذه الفترة الحرجة من الموسم مع تحديد سعر أدنى لا يقل عن 18 دينارا لاقتناء زيت الزيتون من الفلاح وهو سعر يغطي تكاليف الإنتاج من حرث وتقليم وسقي وجمع وعصر ويضمن له هامشا من الربح ضمانا لمواصلة العمل والإنتاج.
ثانيا تمكين الديوان الوطني للزيت من الإمكانيات الضرورية لاستيعاب الإنتاج الوطني من الزيت وشراء كميات أكبر من زيت الزيتون بأسعار تناسب الفلاح طبعا ثم تصديرها خلال فترة ارتفاع الأسعار العالمية. وهذا من شأنه أن يوفر عائدات هامة للديوان يمكن استغلالها لتطوير قدرات وطاقة الاستيعاب وإصلاح البنية التحتية والاستعداد جيدا للصابات القادمة.
ثالثا الدولة مطالبة عبر دبلوماسيتها الاقتصادية بالبحث عن أسواق جديدة وتجاوز الاحتكار الذي تمارسه إسبانيا وإيطاليا على الإنتاج التونسي الذي يصلها في الغالب خاما ويقع تعليبه وبيعه بأسعار خيالية.
أمّا بالنسبة للاستهلاك المحلي فلا يجب أن يكون على حساب الفلاح. المستهلك بحاجة إلى دعم من الدولة عبر تغطية كميات من الزيت تباع في السوق المحلية بسعر مخفض يتناسب والقدرة الشرائية للتونسي. والأموال التي تضخ للزيت النباتي المستورد يمكن أن تضخ للفلاح التونسي.
أمّا على المستوى المتوسط والبعيد فمن الضروري إلى جانب مواصلة البحث عن أسواق جديدة لترويج الزيت وسلع أخرى منتجة في الداخل لا بدّ من خلق مصانع مرتبطة بهذه المادة وخاصة التعليب. الكمية التي ستروج في الخارج لا بدّ أن تعلّب في الداخل في مصانع تونسية لتوفير مواطن الشغل ولتحقيق أرباح إضافية يمكن أن يستفيد منها الاقتصاد المحلي.
من الضروري أيضا الاعتناء بالفلاح التونسي وخاصة الفلاح المتوسط والصغير وتمكينه من الإمكانيات الضرورية لتطوير إنتاجه من قروض بدون فوائض وتشجيع على بعث التعاونيات الفلاحية لتجاوز معضلة المساحات الصغيرة غير المنتجة إلى جانب تحديد سعر الشراء بما يراعي مصاريف الإنتاج وتحقيق نسبة أرباح تساعد على تطوير الإنتاج.
أمّا الحلول الجذرية لقطاع الزيتون وغيره من القطاعات الفلاحية وغير الفلاحية فهي جزء لا يتجزأ من الخيارات العامة للدولة وسياستها. والإنتاج الوطني، الفلاحي وغير الفلاحي، يجب أن يوجّه أولا وأساسا للاستهلاك المحلي، للتونسيات والتونسيين الذين من حقهم أن ينعموا بخيرات بلادهم من زيت زيتون وتمور وقوارص وخضر وغلال وحبوب وغيرها. الإنتاج عموما لا بدّ أن يوجّه قبل كل شيء لتوفير الحاجيات الداخلية على أن يقع فيما بعد تصدير ما زاد عن الحاجة. وهذا يتطلب قدرة شرائية عالية وأجورا تتناسب مع معدل الأسعار إلى جانب توفير الشغل اللائق لطالبيه. إنّ الاستهلاك هو أحد مصادر النمو الاقتصادي ولا بدّ من أخذ ذلك في الحسبان.
لكن مثل هذه العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك المتسمة بالتعاون وتبادل المنافع بين أبناء المجتمع وبين مختلف القطاعات الإنتاجية لا يمكن أن تتم في ظل دولة الاستعمار الجديد الحالية في نسختها الشعبوية التي تضع مخططاتها وتصوغ ميزانياتها وفقا لما يخدم مصالح الأقلية الأكثر ثراء في البلاد ومموليها من كبرى الشركات والمؤسسات الاستعمارية التي تستحوذ على فائض القيمة المحلي.
إن الدولة الديمقراطية الشعبية هي الحاضنة لهذا المشروع الجديد وهي القادرة على تطوير الإنتاج وخلق الثروة وضمان الاكتفاء الذاتي المحلي وتمكين الشعب من أن يكون سيدا على ثروات بلاده وهذا أحد عناوين السيادة الوطنية المنشودة، إلى جانب تحقيق العدالة الاجتماعية لأن الديمقراطية الشعبية تعتبر المواطن التونسي أثمن رأس مال.

إلى الأعلى
×