بقلم مرتضى العبيدي
إذن رأينا في الجزء الأول من هذا المقال كيف تشكلت ما يُعرف اليوم بالأراضي الدولية في تاريخ تونس الحديث والمعاصر منذ عهد البايات، وكيف تمّ استرجاع ما اغتصبه المستعمر لتصبح بذلك الدولة التونسية أكبر الملاكين العقاريين خلال الستينات من القرن الماضي وحتى اليوم. فكيف تصرّفت هذه الأخيرة في هذا الرصيد العقاري الهائل الذي شكّل ولا يزال ثروة وطنية لا تُقدّر بثمن. وحسب دراسة أنجزها معهد تونس للدراسات الاستراتيجية، قدّرت مساحة الأراضي “المؤممة” بشتى الطرق التي أشرنا إليها في الجزء الأول، بما فيها تلك التي أُمّمت بمقتضى قانون 12 ماي 1964، بـ 828570 هكتارا، إلا أنها تقلصت مع بداية حكم بن علي سنة 1987 إلى 500 ألف هكتار فقط. فأين ذهبت المساحات الأخرى، وهي ليست بالهيّنة إذ هي تقدّر بقرابة 330 ألف هكتار؟
شكّل ملف الأراضي الدولية إحدى المحرّمات التي كان يمنع التداول بشأنها في العهدين السابقين. فلا الصحافة كانت تجرؤ على التطرّق إليه ولا حتى الأبحاث الجامعية وأبحاث مراكز الدراسات المختصة، رغم محدودية انتشارها، إذ بقي عددها محدودا للغاية، إلى أن قامت الثورة، فرفعت الحظر عن هذه المحرّمات، فطُرح الموضوع بحدّة كموضوع للمساءلة وللفهم ومعرفة الحقيقة.
الأراضي الدولية: العمود الفقري لمختلف سياسات الدولة الزراعية
لكن ما يمكن تأكيده هو أنّ منظومات الحكم المتعاقبة (فترة التعاضد، الفترة الليبرالية، فترة سياسة التعديل الهيكلي، فترة العولمة…) استخدمت الأراضي الدولية كعمود فقري تقيم عليه سياساتها الزراعية المختلفة.
فترة الستينات وسياسة التعاضد
ففي الستينات، وعند تطبيق سياسة التعاضد، تم اعتماد الأراضي الدولية لتكوين التعاضديات، بنيّة جعلها نماذج مثالية بحكم ما تتوفر عليه من إمكانيات: مكننة عالية وإنتاجية مرتفعة موروثة من الحقبة الاستعمارية، علّها تشعّ على محيطها من أجل التعصير المنشود للفلاحة التونسية. وقد بلغ عدد التعاضديات في نهاية التجربة 348 تعاضدية مقامة على مساحة تقدّر بـ 379 ألف هكتار. لكن فشل التجربة التعاضدية أضاف تعقيدات إلى أوضاع تلك الأراضي وأصحابها الذين سيتحوّل جزء منهم إلى أجراء في “الوحدات التعاضدية للإنتاج الفلاحي”، وهي التسمية الرسمية التي ستتخذها التعاضديات في الشمال، أو “التعاضديات متعددة الزراعات وتربية الماشية” في الجنوب. وسيهجرها الباقون باتجاه كبريات المدن بحثا عن الشغل ولضمان حدّ أدنى من العيش اللائق. وقد تمّ في نفس الفترة إنشاء ديوان الأراضي الدولية الذي عُهد إليه بالإشراف على ما تبقّى من الأراضي الدولية في أشكال وصيغ متعددة. يذكر أن النظام قام في هذه الفترة بالتفويت في قرابة الـ40% من الأراضي الدولية لفائدة حاشيته وأتباعه، تماما كما كان يتصرّف البايات. وقد استفاد من هذا التفويت مقاومون، حقيقيون أو مزعومون، وبعض العسكريين، خاصة بعد محاولة الانقلاب على بورقيبة نهاية سنة 1962، أو في صيغة إكراميات لبعض المقرّبين من القصر. وقد أثبتت “اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة” المشكلة بعد الثورة والتي ترأسها الأستاذ عبد الفتاح عمر أنه في كلا العهدين، كان الرئيس بورقيبة ثم بن علي هو الذي يشرف بنفسه على منح هذه الأراضي، ولعلّ هذا ما يفسّر جانب الغموض الذي بقي يحيط بهذا الملف حتى ثورة 17-14.
السبعينات والانفتاح اللبرالي
أمّا في عهدي نويرة ومزالي، فقد بدأ اندماج تونس في “التقسيم العالمي للعمل” الذي سيفتح البلاد على مصراعيها للرأسمال الأجنبي الذي وفرت له الدولة قوانين تبيح له استغلالا بشعا ليد عاملة رخيصة في إطار قوانين تحميه وتشرّع له هذا الاستغلال وعلى رأسها قانوني أفريل 1972 وأوت 1974 المتعلقة بالمؤسسات المصدّرة كليا أو جزئيا التي وفرت للمستثمرين الأجانب حوافز مغرية، حتى أن الدولة التونسية اضطرّت سنة 1970 لإحداث صندوق التعويض ليعوّض للعمال الفارق بين ما يتقاضونه فعلا من أرباب العمل وما كان يجب أن يتقاضوه كأجر مجزي.
أمّا على الصعيد الفلاحي، فقد انشغلت هياكل الدولة بتصفية تركة تجربة التعاضد وإعادة هيكلة الرصيد العقاري ضمن صنف جديد من المنشآت مثل شركات الإحياء والتنمية الفلاحية أو “المجمّعات الزراعية” (Complexes Agricoles ou Agro-Combinats) التي سيعود التصرّف فيها إلى ديوان الأراضي الدولية. وقد تمّ في هذا الإطار إصدار مجلة الاستثمارات الفلاحية سنة 1982، وفي ظلها ظهرت أولى شركات الإحياء والتنمية الفلاحية، وهي التي ستصبح في الفترة اللاحقة، إلى جانب المجمّعات الفلاحية، الركائز الأساسية للتصرف في الأراضي الدولية.
سياسة التعديل الهيكلي الفلاحي والاتجاه نحو الخوصصة
أمّا في فترة سياسة التعديل الهيكلي (Politique d’Ajustement Structurel) وهي من بين إملاءات صندوق النقد الدولي والتي ستشمل القطاع الفلاحي الذي سيشهد انفتاحا على الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي، بحيث سيتتالى إصدار القوانين التي سيتمّ بموجبها التفويت في الأراضي الدولية لفائدة القطاع الخاص، بتعلة النجاعة وتحسين الإنتاج والإنتاجية. ويمكن أن نذكر هنا “قانون 4 مارس 1983 المتعلّق بضبط شروط إحياء الأراضي الدولية الفلاحية من طرف شركات الإحياء والتنمية الفلاحية”، وخاصة قانون 18 جوان 1988 المنقح لسابقه والذي أعطى امتيازات جديدة للمستثمرين وسهّل في إجراءات الانتصاب.
التفويت الممنهج في الأراضي الدولية العقاري العمومي وتدمير الرصيد
وهو ما استغله بن علي لتمكين عائلته والبعض من حاشيته من أخصب الأراضي الدولية. وبذلك مرّت الأراضي الدولية الموضوعة على ذمة شركات الإحياء من 87 ألف هكتار سنة 1995 إلى 250 ألف هكتار سنة 2010. إذ وقع التفريط في الأراضي الدولية عبر سياسة التسويغ والبيع، التي تمّ استخدامها ضمن “نظام الامتيازات والاقتصاد السياسي للهيمنة” كما أوضحت ذلك الباحثة “بياتريس هيبو” (Béatrice Hibou) في كتابها “الاقتصاد السياسي للقمع في تونس” (L’économie politique de la répression en Tunisie) الصادر سنة 2006.
وقد كان نصيب عائلات بن علي وليلى الطرابلسي من هذه الغنيمة أن استحوذوا على 30 شركة إحياء بمساحة جملية قدرها 12 ألف هكتار، قبل أن يُمنح صهر الرئيس المدلل صخر الماطري 1300 هكتار بمنطقة سمنجة من ولاية زغوان أقام عليها مشروعا زراعيا ضخما تمثل في زراعة زيتون مروي ذي كثافة عالية (بمعدل 1600 زيتونة في الهكتار)، وهو ما تسبّب في استنفاد مياه منطقة بير مشارقة المجاورة بعدما تمّ تحويلها لهذا المشروع، على حساب المزارعين الصغار في المنطقة، الذين تحوّل أغلبهم إلى أجراء بعد أن أجبروا على التفريط في أراضيهم سواء بالبيع أو بالتخلي عن استغلالها، والنزوح إلى تونس العاصمة والمدن الكبرى، وهي حال الآلاف من أمثالهم في جميع أنحاء البلاد حيث استولى “المستثمرون” الجدد على تلك الضيعات. وقد تمّت مصادرة هذه العقارات بعد رحيل بن علي، لكن لا أحد يعلم حتى اليوم مصير تلك الأملاك المصادرة.
كما أن اللوبيات المتنفذة تمكنت بالتحايل من تحويل صبغة الأراضي الفلاحية الدولية إلى أراض عقارية في إطار المشاريع السكنية الكبرى التي التهمت الكثير من الأراضي الفلاحية دون أيّ مشروعية، همّها الوحيد ما كانت توفره لها هذه الأراضي من أرباح طائلة.
فشل سياسة الخوصصة وآثار ذلك على المشهد الزراعي في تونس
وقد أثبتت المهمات الرقابية التي أنجزتها مؤسسات الدولة كدائرة المحاسبات والتي وقعت بين 2012 و2017 أن التفويت في الأراضي الدولية للخواصّ لم يِؤت أكله بتاتا إذ لا الإشعاع المنتظر على المحيط حصُل، ولا تعصير الفلاحة ولا توفير مواطن الشغل في تلك الجهات. بل إن وضعية العديد من تلك الضيعات تدهورت وأُهملت إلى درجة أن المتسوّغين لم يقدروا حتى على تسديد معاليم الكراء، رغم ما تمتعوا به من امتيازات وقروض تراكمت اليوم ولم يعد أمر تسديدها ممكنا.
ونظرا إلى أن الأراضي الدولية شكلت كما رأينا العمود الفقري للسياسات الفلاحية للدولة في مختلف مراحلها (فترة التعاضد، بداية النهج الليبرالي، سياسة التعديل الهيكلي الفلاحي، فترة العولمة والخضوع لإملاءات المؤسسات المالية العالمية…)، ونظرا إلى أن الحكام تصّرفوا فيها وكأنها ملكيتهم الخاصة، ففرّطوا في أجزاء كبيرة منها، فإن أيّ خطوة قادمة تتم بشكل متسرّع وغير مدروس، مثل ما يروج من إمكانية التفويت في بعضها إلى الشركات الأهلية، يعدّ مسّا بهذه الثروة الوطنية التي تبقى كغيرها من الثروات – مثل الثروات الباطنية – ملكا للشعب الذي من حقه إبداء رأيه في كيفية التصرّف فيها.
الأراضي الدولية الذاكرة الجماعية لتونس الأعماق (الجزء الأول)