بقلم الجيلاني الهمامي
انعقد صبيحة اليوم السبت 14 ديسمبر 2024 بدار الاتحاد العام التونسي للشغل بالعاصمة تجمعا نقابيا ضم إطارات نقابية (أغلبيتهم أعضاء المجلس الوطني) بدعوة من خمسة أعضاء بالمكتب التنفيذي الوطني وعدد من الهياكل النقابية (اتحادات جهوية وجامعات). ويأتي هذا التجمع ضمن نسق تصعيدي اتخذه الصراع الجاري داخل قيادة الاتحاد منذ مدة.
فقد سبق هذا التجمع صدور رسالة كان نشرها عضو المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل الأخ أنور بن قدور عنوانها “في المحافظة على الاتحاد العام التونسي للشغل: التعجيل بالمؤتمر العام”. وتفاعلا مع هذه التطورات الهامة والخطيرة في حياة المنظمة الشغيلة اليوم أود أن أبدي جملة من الملاحظات حول أوضاع الاتحاد اليوم ومآلات الصراع الدائر صلب قيادته وهياكله ومن ثمة الانعكاسات الوخيمة على أوضاع الحركة النقابية في تونس.
أزمة ليست كسابقاتها
عرف الاتحاد على امتداد تاريخه أزمات متلاحقة وبمعدل أزمة كل عشرية منذ خمسينات القرن الماضي. وكانت كل الازمات السابقة في عهدي بورقيبة وبن علي تستهدف استقلالية الاتحاد عن السلطة التي كانت تسعى على الدوام إلى تدجيه وربطه بعجلتها. ولم يكن مطروحا بالمرة في كل تلك الازمات القضاء على المنظمة الشغيلة مثلما هو مطروح الآن. أما اليوم فإن الازمة الراهنة تهدف إلى القضاء المبرم على الاتحاد لسببين كبيرين على الأقل. أولهما هو مخطط نظام الشعبوية في القضاء على الاجسام الوسيطة والاستغناء عنها لفائدة “بناء قاعدي” جديد يجسم رؤية الشعبوية في هيكلة التعبيرات التي تنشأ عن حركية المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته. وثانيهما هو أن الخيارات الليبرالية المتوحشة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية تقتضي التخلص من أي عائق في وجه التطبيقات القاسية لهذه الخيارات وعلى وجه أخص التخلص من النقابات العمالية.
لهذه الأسباب وغيرها فإن الاتحاد مهدد في وجوده أصلا وليس فقط في استقلاليته أو في بعض الحقوق التي يتمتع بها مثل التمثيل في المؤسسات أو التفاوض الاجتماعي الخ…
ولسنا في حاجة إلى التدليل على ذلك فأوجه ضرب المنظمة الشغيلة باتت واضحة لدى جميع النقابيين (بما في ذلك النقابيين الموالين للسلطة) ولدى عموم الرأي السياسي والشعبي. وسوف نعود إلى هذا الواقع في عمل آخر حول خصائص أزمة الحركة النقابية في بلادنا اليوم.
الوجه الآخر للأزمة
وتتزامن هذه الازمة المفروضة على الاتحاد بأزمة أخرى نابعة منه يقر بها الجميع بما في ذلك القيادة الحالية بشقيها (فريق العشرة وفريق الخمسة)(1). وهي أزمة قديمة متجددة اتخذت في الأشهر الأخيرة وجها صارخا بات يشير إلى انطلاق مسار انقسام يشق الاتحاد شقين من فوق إلى تحت، من المكتب التنفيذي الوطني إلى الاتحادات الجهوية والهياكل القطاعية (جامعات ونقابات عامة). ويتأكد كل يوم أكثر بمضي الفريق القيادي نحو عملية انشقاق آتية لا ريب فيها تقريبا. ويبدو أن الاتحاد مقدم على حالة شبيهة بانشقاق الثمانينات إثر طرد سبعة أعضاء من المكتب التنفيذي وظهور “الاتحاد الوطني” (UNTT) مع فارق في الزمن وفي تفاصيل الصراعات والتباينات بطبيعة الحال.
ويبدو أن الانقسام في المكتب التنفيذي قد وصل نقطة اللاعودة، فكل محاولات الصلح والوساطات (من بعض الكتاب العامين للاتحادات الجهوية) باءت بالفشل لأن كلا الطرفين أصبح تحت وطأة “الخوف” من أن يعتبر هو الخاسر في هذا الصراع. ونتيجة لذلك لم يكن من الممكن أن تلتئم الهيئة الإدارية الوطنية رغم وجود ما يكفي من الملفات والقضايا التي تستوجب انعقادها. أكثر من ذلك لم يعد المكتب التنفيذي الوطني المنتخب قادرا على الاجتماع بكافة أعضائه وأصبحنا اليوم في حالة من ازدواجية الهياكل على المستوى المركزي، مكتب تنفيذي بعشرة أعضاء وآخر بخمسة أعضاء، وكل منهما يرمي المسؤولية على الآخر ويعتبر أن الشرعية والصواب في صفه. والجديد الجديد في هذا الصراع أنه بدأ في الانتشار على الساحات العامة وفي متناول الراي العام النقابي وغير النقابي. كان ذلك في مرة أولى عندما نشر الاخ أنور بن قدور عضو المكتب التنفيذي الوطني رسالته (ويقال أنها في الأصل رسالة نابعة عن الأعضاء الخمس) والتي فتحت الباب لوسائل الاعلام ولمتابعي الشأن النقابي بتناول موضوع الصراع داخل الاتحاد كمادة مشاعة للجميع، وفي مرحلة ثانية اتخذ هذا الصراع منحى جديدا بانعقاد التجمع النقابي اليوم السبت 14 جانفي 2024 بدار الاتحاد للمطالبة بانعقاد المجلس الوطني من جديد لاستكمال أشغاله.
الصراع يدخل منعرجا جديدا
في سابقة أولى تكاد تكون غير مسبوقة في تاريخ الاتحاد يلجأ عدد هام من أعضاء المكتب التنفيذي المنتخب (ثلث الأعضاء) بمعية عدد من قيادات الاتحادات الجهوية والجامعات العامة وعدد كبير من أعضاء المجلس الوطني (قدره المنظمون بحوالي ثلثي المجلس الوطني) للضغط على الأمين العام و”الشق الآخر” من المكتب التنفيذي للقبول بدعوة المجلس الوطني للانعقاد من جديد لاستكمال أشغاله والمصادقة على اللائحة الداخلية بما في ذلك النقطة 12 منها التي تنص على الدعوة إلى مؤتمر استثنائي أو تقديم المؤتمر العادي. ويعتبر الأعضاء الخمس الذين نظموا اجتماع اليوم أن المجلس الوطني السابق (بداية سبتمبر الماضي) لم يستكمل مهامه وتم رفع أشغاله بعد التصويت على لائحة داخلية تصرّف فيها الأمين العام وأحد أعضاده بشكل أحادي الجانب. ويؤكدون أن التصويت جرى بعدد لا يتوفر على النصاب القانوني بل لا يمثل إلا أقلية صغيرة في وقت كانت أغلبية أعضاء المجلس قد غادرت قاعة الاجتماعات. وقد شرح الاخ أنور بن قدور تفاصيل المسألة في رسالته المشار إليها.
اجتماع اليوم جاء بعد ترويج وإمضاء عرائض نادت بهذا المطلب دون أن تلقى استجابة من المكتب التنفيذي. وجاء أيضا بحسب ما يتداول من إعلام في الساحة بعد فشل محاولات إصلاح ذات البين ووساطات للمصالحة. فانعقاده اليوم هو بمثابة الإعلان على المرور إلى السرعة الأعلى في الصراع والانتقال من المباحثات الداخلية إلى التشهير العلني والاحتجاج المفتوح تحت أنظار الجميع بما في ذلك مسيرات وزارة الداخلية (drone). ويستشف من الحضور المكثف والشعارات التي تم رفعها (أغلبية أغلبية المؤتمر موش مزية) أن الصراع دخل منطقة لي الذراع. وتؤكد المقررات التي تم الإعلان عنها وأهمّها عقد ندوة صحفية في الأيام القليلة القادمة ودخول الأعضاء الخمس في اعتصام في مكتب الأمين العام ابتداء من يوم 25 ديسمبر القادم دخول أن الصراع انتقل إلى حالة قصوى في التصعيد بين الجانبين.
وإلى جانب ذلك فإن هذا الاجتماع المنعرج يحمل دلالات أخرى أعمق وأخطر. فهذا التصدع داخل القيادة الذي أدى إلى انقسام من فوق إلى تحت وفي ظل تكثف مؤشرات التصعيد من شأنه أن يزيد في عمق الهوة بين الطرفين وفي المضي بالاتحاد إلى ظهور ازدواجية أعم تشمل المكتب التنفيذي وربما في قادم الايام الهيئة الإدارية ولما لا المجلس الوطني لاحقا بحيث يصبح المكتب التنفيذي مكتبين تنفيذيين والهيئة الإدارية هيئتين إداريتين والمجلس الوطني مجلسين. ومن غير المعلوم كم يمكن ان تستغرق هذه الوضعية من وقت. ولكن ومهما كان من أمر يبدو وأن الاتحاد مقدم على فترة انتقالية تجمع بين الانقسام والتعايش مع الانقسام (cohabitation) وتكريس التعددية تحت اسم مشترك “الاتحاد العام التونسي للشغل”. هذا ما لا نتمناه ولكنه الاحتمال المخيف الذي تشير إليه كثير من الدلائل.
والسؤال المطروح هو كيف لا يدرك أعضاء المكتب التنفيذي بشقيه (وخاصة شق الأمين العام) هذه الحقيقة: الاتجاه نحو الانقسام والانشقاق فالتعددية؟؟ ثم ألا تدرك قيادة الاتحاد أن هذه الأوضاع لا تخدم إلا مصلحة السلطة التي تتربص بها وبكل فرد منها وبالاتحاد ككل في إطار ما سبق الإشارة إليه؟
الحسابات الخاطئة
يتضح كل يوم أكثر فأكثر أن القرارات المتسرعة وغير الموزونة في استعجال رفع أشغال المجلس الوطني والإقدام على التصويت دون توفر النصاب القانوني والمرور بقوة كان نتيجة تقديرات خاطئة للتطورات التي ستنجم عن ذلك. وقد اتضح أن الأيام الموالية للمجلس الوطني سفّهت تلك التقدير بحيث لم يتمكن الأمين العام، خلاف ما كان يتوقع أو يوحى له به، من تفكيك الشق المعارض له أو منع توسع تأثيره. فقد ازداد تماسكا وانتشارا في صفوف الهياكل الوسطى والقاعدية. إن منطق المغالبة الذي طبع الصراع في المراحل السابقة كان منقادا بحسابات خاطئة وافتقد للحد الأدنى من الحكمة. وفي هذا المنطق، منطق المغالبة، كانت هناك جرعة من المغامرية التي تخفي نوعا من الاستهتار بالمسؤولية فيما يتعلق بمصير المنظمة.
قد يكون من اللازم أن نعود للتعمّق في دراسة خصائص العنصر البيروقراطي من الجيل الحالي للبيروقراطية النقابية ولكن الامر الأكيد أن الصراع الجاري الآن والتنطع في التعاطي مع نقاط الخلاف وأهمّها مع مسألة انعقاد مؤتمر استثنائي والتمترس في تجاهل استحقاقات الوضع بعد التحولات التي عرفتها الساحة السياسية والنقابية لا في تونس فقط بل في العالم كله دليل على قصر نظر هذا الجيل وتهافته على الموقع القيادي.
مرة أخرى حول المؤتمر الاستثنائي
لقد وفّر المجلس الوطني الفارط فرصة ذهبية لتجاوز الخلافات والابتعاد عن شبح الانقسام إذ كان من الممكن لو تم التعاطي مع المقترحات المقدمة في النقطة 12 من اللائحة الداخلية (وهي مقترحات تم درسها وطبخها في أكثر من مستوى داخل هياكل الاتحاد وتم الاتفاق على عرضها للتصويت ضمن اللائحة) بشكل ديمقراطي وفي إطار صراع حر وهادئ، كان من الممكن إفراز صيغة تحظى بأغلبية الأصوات الأمر الذي يضع القيادة في مأمن مما تعيشه اليوم. لقد افتقد العقل النقابي يومها الصواب وانجر إلى الأسلوب البيروقراطي التسلّطي الذي كان في ظروف أخرى غير ظروف اليوم (مثلا سنوات المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي الخ…) يمر دون عناء. لكن بات اليوم، بالنتيجة، واضحا أن هذا الأسلوب أصبح مجلبة للتصدع والانقسام ولا يخدم حتى مصلحة أصحابه.
ومع ذلك ورغم ما بلغه الصراع من احتدام وما يمكن أن يصبح عليه يوم 25 ديسمبر القادم مازال من الممكن أن يقع تلافي تعقيد الوضع. فمازال بالإمكان، لو يقع تغليب مصلحة الاتحاد والنأي به عن الانقسام، دعوة المجلس الوطني للانعقاد واستكمال مهامه. ومازال بالإمكان، لو يقع التخلي عن الحسابات والاطماع الشخصية والتشبث الاعمى بالكرسي، الذهاب بالمجلس الوطني إلى عقد مؤتمر استثنائي بعيدا عن التوترات.
إن الاتحاد اليوم وأكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى خيارات وسياسات جديدة تقوم على استقلاليته حيال السلطة والقوى الرجعية وعلى التسيير الديمقراطي صلبه وعلى الكفاحية في الدفاع على مطالب الشغالين المادية والمعنوية. وهو اليوم في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى قيادة جديدة تتبنى هذه الأرضية وتكرسها في عملها لأن الفريق الحالي فقد كل أهلية للقيام بذلك.
هذه الخيارات وهذه القيادة الجديدة لا تنبع إلا عن مؤتمر بالضرورة بصفته الهيئة الأكثر تمثيلا للقواعد والاداة الوحيدة المخولة بإجراء مثل هذا التغيير الآن ودون انتظار. من هذا المنطلق يتخذ المؤتمر الذي سيعالج وضعية استثنائية ويجري تغييرا استثنائيا، طابعا استثنائيا هذا علاوة على أن أوضاع الازمة الراهنة تتطلب معالجة سريعة وربح الوقت.
إن المؤتمر الاستثنائي استحقاق يفرضه واقع الاتحاد بشكل عام ولكنه أصبح اليوم أكثر إلحاحية جراء استفحال الازمة صلب قيادته وهياكله وجراء ما ينتظره في علاقة بمخططات السلطة التي أشرنا إليها أعلاه.
جيلاني الهمامي
تونس، 14 ديسمبر 2024
(1) – يتركب المكتب التنفيذي من 15 عضو انقسموا إلى شقين، شق مع الأمين العام وفيه 10 أعضاء وشق معارض له متكون من 5 أعضاء وهم منعم عميرة وأنور بن قدور وصلاح السالمي وعثمان الجلولي والطاهر البرباري.