بقلم ماهر الزعق
صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامّة للأمم المتّحدة في باريس يوم 10 ديسمبر 1948 وإثر ذلك تتالى إصدار عشرات المواثيق والعهود الدولية والتي تحتوي إجمالا على قيم نبيلة ومبادئ رائعة ورغم ذلك وربّما لذلك، لم يتوقّف مذ ذاك انتهاكها، انتهكها الكبار قبل الصغار، بصق عليها الأباطرة دون حياء ومزّقها الوكلاء دون حرج، فكلّ 4 ثواني يموت إنسان من الجوع، مليار من البشر لا يتحصّلون على الماء الصالح للشرب، مليار من سكان الأرض يعانون من البطالة، لم تتوقّف الإبادات الجماعية وآخرها ما يحدث في غزة الأبيّة، رحيل طاغية يُفرّخ طغاة ( Tyrans) والمستبدّون (Despotes) أثقل من الهمّ على القلب، أين الحقّ في الصحّة، في الغذاء وفي الماء؟ في الحرية وفي الكرامة وفي الحياة؟ أين حقّ الشعوب في تقرير مصيرها؟… أين نحن من حقوق الإنسان في زمن العلوّ الشاهق؟ جوّ من الاختناق يخيّم على سماء البلاد، الحصار يتقدّم ومساحة الحريّة تضيق والحقوق تُنتهك أحيانا بصفاقة وأحيانا أخرى برياء، إذا ألقيت نظرة شاملة ستتكوّن لديك فكرة عامّة لكنها دالّة وستكتشف البغيض والمُغيظ وعلامات من دولة البوليس وباختصار إليك هذه العيّنة من الانتهاكات في 13 مجال:
1. حريّة التعبير والإعلام:
حريّة الرأي مقيّدة بألف خيط وخيط وإبداء الرأي مُحاصر بذلك المرسوم اللعين، إيقافات بالجملة وتتبّع واعتقالات ومحاكمات راح ضحيّتها عشرات الأشخاص غير معروفين للعموم، منهم قيس النصيري في سبيطلة ومُهاب التومي من جربة ومُودة الجمعي من قابس، عشرات السياسيين والإعلاميين محلّ تتبع ورهن الاعتقال، منهم بوغلاب والزغيدي وبسيّس ونزار بهلول وهيثم المكي ومنية العرفاوي وسنية الدهماني وصالح عطية وآخرين، التضييق على الحقّ في المعلومة وإيقاف العمل بالمرسوم 115 الذي ينظّم حريّة الصحافة والطباعة والنشر وتجميد عمل الهايكا والعمل بالمرسوم 116، التضييق على عمل الصحافيين في متابعة أشغال مجلس “نوّاب الشعب” أو مواكبة الانتخابات والنقاط الإعلامية الرسمية، هي الأخرى من أدوات تدجين الإعلام، عدا أنّ الإعلام مقيّد هو الآخر بسلطة رأس المال فإنّ نائبة رئيس مجلس “نواب الشعب” صرّحت دون حُمرة في الوجه أنّ منظومة 25 جويلية قائمة على المرسوم 54، أي على ضرب حريّة التعبير…
2. استقلال القضاء:
مساء 25 جويلية 2021 نصّب سعيّد نفسة رئيسا للنيابة العمومية ثم تراجع عن ذلك، لكنّه حلّ المجلس الأعلى للقضاء وعوّضه بمجلس آخر ولد ميّتا وبقي دون نصاب، دستور الرئيس منع القضاة من الإضراب، أصدر مرسوما يُخوّل له تعيين وعزل القضاة فعُزل 57 قاض بناء على تهم مختلفة، 49 منهم برّأتهم المحكمة الإدارية لكنّ وزيرة العدل لم تستجب، في تصريح علني اتهم سعيّد بعض القضاة بالفساد الأخلاقي وبالزنا، تزايد عدد المدنيين المحالين على القضاء العسكري أمر مثير للقلق والرهبة… مُجمل القول، مجزرة طالت القضاء والقضاة ولم تتوقّف الاعتقالات ولن تتوقّف إذ أنّ رئيس الدولة صرّح قائلا “من يبرّئهم يكون من شركائهم”.
3. المحاكمة العادلة:
بداية من استسهال وضع الناس في السجن مرورا بالاعتقال على أساس وشاية من أشخاص مجهولين تحت أسماء رمزية (x) وصولا إلى إخلالات في التعاطي مع القضايا سواء تعلّق الأمر بالشكل أو بالأصل، ثمّ تتوالد التهم، يعتقل أحدهم في قضية ما فيجد نفسه متهما بثلاث أو أربع قضايا، والأنكى من ذلك، أنّه إذا حان موعد إطلاق سراحك لا تبتهج أكثر من اللزوم ففي انتظارك تهم أخرى تحت الطلب، في زمن العلوّ الشاهق انقلبت المعايير، إذ أنّ قاعدة “قرينة البراءة حتى تثبت الإدانة” حلّ محلّها “إذا كنت بريئا سيطلق سراحك”. وياما في الحبس مظاليم.
4. الإفلات من العقاب:
طبعا لا أحد فوق القانون، إلاّ البوليس وقضاء التعليمات والقذارة الحيّة التي احتلت صدارة المشهد الإعلامي، أولئك الذين يصمّون آذاننا بالسبّ والتجريح والافتراء والتشنيع على منتقدي الرئيس، رُفعت ضدّ هذه القذارة العديد من قضايا، لكنّها بقيت في الأدراج لا ترى النور فهؤلاء لا يطالهم مرسوم ولا يُحاسبهم قانون.
5. شروط الاحتفاظ:
عدم احترام القانون عدد 5 لسنة 2016 المنظّم لشروط الاحتفاظ والانتهاكات المسجّلة في مراكز الاحتجاز هي سياسة دولة وليس حالات معزولة ومن حين إلى حين يعود الحديث عن مشروع ذلك القانون السيّء الذكر والمتعلّق بحماية الأمنيين وتوسيع صلاحيات استعمالهم القوّة ومن غير المستبعد أن يقع المصادقة عليه من مكتب الضبط المُكنّى بمجلس نوّاب الشعب.
6. حريّة العمل النقابي:
تجريم الإضراب وإلغاء الحقّ في التفاوض وانحياز رسمي لسلطة رأس المال، اعتقال ومحاكمات لعمّال مصنع الأحذية في السبيخة، 22 شخص من سليانة يُقَدّمون للمحاكمة بتهمة إزعاج راحة الغير، إذ أنّهم احتجوا على إنشاء وحدة ثالثة لتعليب المياه في الجهة واعتبروا ذلك تهديدا حقيقيا للمائدة المائية ولمورد رزقهم. سنة 2023، تمّت محاكمة 16 نقابي من نقابة النقل، في نفس العام وقع احتجاز عمال زراعيين احتجوا في ساحة القصبة، لا حاجة للقول أنّ هذه عيّنة ليس إلاّ.
7. حريّة التنظّم:
هي في مرمى سهام منظومة 54 جويلية، بداية من الخطاب الرسمي القائم على التشويه والاتهام بالفساد والتمويل المشبوه والتعامل مع الدوائر الصهيونية، ثمّ يأتي إلغاء المرسوم عدد 88 المنظّم للعمل الجمعياتي وتقديم مشروع قانون يُكبّل المجتمع المدني بجميع مكوّناته وبين هذا وذاك لم تتوقّف الملاحقات والإيقافات والمحاكمات وآخرها إيقاف رئيس منظمة أطفال القمر والطبيب عبد الله سعيد الناشط في جمعية تهتّم بمسألة الهجرة، لن تقف الأمور عند هذا الحدّ فالتضييق سيطال أيضا النشاط الحزبي وستعود إلى النور تهمة “الانتماء” ويا له من نور.
8. حريّة التظاهر:
تمّ إيقاف عدد من الشباب شاركوا سنة 2022 في تظاهرة ضدّ الاستفتاء على الدستور والتهمة هي الاعتداء على عناصر الأمن وهي تهمة سهلة المنال ودوما تحت الطلب، استعمال العنف من قبل عناصر الأمن تجاه مظاهرات سلمية، وضع الحواجز لمنع المتظاهرين من التظاهر في أماكن محدّدة، تهديد من ضابط أمن موجّه للمتظاهرين بمنعهم من التظاهر في شارع الثورة (الحبيب بورقيبة)، وصل الأمر بمنع التظاهر من أجل مساندة الحقّ الفلسطيني والتشهير والتنديد بالتطهير العرقي وبالإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون على يد الصهاينة وشركائهم من الغرب والشرق والمسلمون والعرب، منتهى القول أنّ الترهيب هو سياسة دولة ضدّ الحقّ في التظاهر.
9. حقوق المهاجرين والأجانب:
الانتهاك انطلق بترديد نظرية المؤامرة وخطاب الكراهية والعنصرية تجاه الأفارقة جنوب الصحراء، ما أدّى إلى التجييش وإثارة نزعات بدائية لدى الحشود وإلى أعمال عنف مؤسفة وأحيانا خطيرة ومُميتة، تعاون السلطة مع الحكومات الغربية في ملّف الهجرة رغم ما أقدمت عليه هذه الأخيرة من تغييرات في قوانين الهجرة تمسّ حقوق التونسيين بالخارج، كذلك إبرام اتفاقية مع رئيسة وزراء إيطاليا المعروفة بمواقفها العنصرية، اتفاقية لم يُكشف عن محتواها، الترحيل القسري والسري والمُهين للتونسيين بالخارج وللمهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء والنتيجة وفاة على الأقلّ 28 مهاجرا في الصحراء على الحدود الليبية وأخيرا تجريم كلّ من يتعامل معهم أو من يحاول أن يجعل ظروف عيشهم أكثر إنسانية.
10. حريّة الإبداع:
مُنع كتاب فرانكشتاين ثم بحركة استعراضية رُفع عنه الحجر، أمّا الشاب رشاد طنبورة من مدينة المنستير فقد حوكم بسنتين سجن من أجل رسومات على الحيطان، مسرحية الفاضل الجعايبي مُنعت من العرض على مسرح الحمامات الدولي، توفيق عمران تمّ إيقافه من أجل نشره كاريكاتور، شباب من قبلي تعرّضوا للاعتقال من أجل أغنية شبابيّة (بابا فيل)، طبعا ليست إلّا مقدّمات كريهة لصعلكة سلطوية.
11. حريّة الانتخاب:
تغيير القانون الانتخابي، تعيين هيئة انتخابات على المقاس، ضرب الحقّ في الترشح وإصدار أحكام سجنية فظيعة في حقّ أحد المترشحين وإحدى معاونيه، منع المحكمة الإدارية من النظر في نتائج الانتخابات وذلك عشية العملية الانتخابية، إلغاء مبدأ التناصف ممّا أدى إلى تراجع نسبة تواجد المرأة في مجلس النواب إلى %15، إثارة هيئة الانتخابات قضايا ضدّ منتقديها وتهديدها لكلّ من يشكّك في المهزلة الانتخابية سواء بالتلميح أو بالتصريح.
12. الدستور:
أقرّ الدستور نظاما رئاسويا، حكم مطلق للرئيس الذي لا يُسأل ولا يُحاسب، إلغاء كلّ السلطات، حلّ الهيئات الدستورية، المحكمة الدستورية في غرفة الانتظار، ليس هذا المجال للتدقيق في فصول دستور الرئيس، لكن لا بأس من الإشارة إلى ثلاث مسائل ذُكرت في الدستور :
- ”الدولة مسؤولة على تطبيق مقاصد الإسلام”، من يحدّد المقاصد ولماذا تتدخّل الدولة في الشأن الديني، إذا تدخّلت السياسة بالدين فسُدت السياسة وتضرّر الدين، ثمّ إنّه ضرب في المقتل لمدنية الدولة واعتداء صارخ على حريّة المعتقد والضمير.
- جاء في توطئة الدستور “أنّ المجتمع يطبّق القانون ويحرص على إنفاذ القواعد القانونية ويتصدّى لكلّ من يتجاوزها أو يحاول الاعتداء عليها…” رائحة الميليشيا الفاشيّة تزكم الأنوف.
- جاء في الفصل 69 من الدستور “أنّ مقترحات القوانين ومقترحات التنقيح التي يتقدّم بها النواب لا تكون مقبولة إذا كان من شأنها الإخلال بالتوازنات الماليّة للدولة”، سلامي لمجلس الطراطير.
13. الحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
الحقّ في الماء مهدور وغلاء المعيشة لم يسبق له مثيل، طوابير العار وفقدان مواد أساسية ومئات من الأدوية الحيوية، مليون عاطل عن العمل، مليونان من التونسيين لا يتمتعون بالتغطية الاجتماعية، آلاف المربين في العطالة، أقسام مكتظة ومدارس بلا مدرّسين، النقل العمومي مُهين… ثمّ للمداراة على هذه الفضائح، طلع علينا أحدهم بمسألة الأخلاق الحميدة و6 أشهر سجن وخطية مالية لمن يعتدي على الأخلاق، فليعلم أحدهم أنّ الكذب هو أمّ الرذائل وكما قالت الفنّانة منى نور الدين في مسلسل الحرقة “الحاكم أكبر كذّاب”.
صفوة القول، العشرات من السياسيين والإعلاميين والنقابيين والنشطاء يقبعون في السجون، أغلبهم دون محاكمة وأغلبهم لديه أكثر من قضية وتهمة التآمر والفساد دوما حاضرة، بطبيعة الحال لن يسلم أحد، كلّ من ينتقد النظام هو في حالة سراح مؤقت ومعرّض في أيّ وقت للتتبّع والاعتقال والتنكيل، طبعا انتهاك حقوق الإنسان والاعتداء على الحريّات لم يتوقّف بعد الثورة، جميعنا يتذكّر أحداث 7 و9 أفريل 2012، وأحداث الرشّ في سليانة وتعلّم عوم وسحل الفتى في سيدي حسين، الاعتداءات في مراكز الاحتفاظ طالت حتى المحامين، الاعتداء على المتظاهرين، صولات وجولات جماعة الإرهاب حتى وصلنا إلى اغتيال شكري والبراهمي… لكن ما آلت إليه الأمور شيء فريد من نوعه، ما يجري اليوم هو تجريد الشعب من كلّ أدوات النضال ووسائط المقاومة، ما يجري اليوم هو عملية إخصاء جماعية، تجويف الأدمغة وخفض مستوى الذكاء والفطنة، تعويد الناس على الفجاجة والبلاهة، على التصلّب والخواء، إثناؤهم عن الاهتمام بالسياسة، جعلهم يعتبرون الطغيان وكأنّه ضرورة وحِكمة معقولة، تعميم الخوف وما ينجرّ عنه من صنصرة ذاتية وتفشي الوشاية والتشفي والشماتة… إنّه أمر يبعث على الأسى لكن هل وصلنا إلى القاع؟ حتما لا، لأنّه لا حدود للانحدار، هناك تصعيد من جانب السلطة وبقدر ما تتعاظم مشاكلها ويتضاعف ذعرها، بقدر إيغالها في انتهاك حقوق الإنسان وفي هدر الحريّة وبدون مقاومة جماعية لن تتحسّن الأوضاع وعلى العموم لا فائدة من الحياة دون حريّة.