أفاق العالم فجر يوم الأحد 8 ديسمبر على خبر سقوط النظام السوري وفرار بشار الأسد “نحو وجهة غير معلومة” اتضح لاحقا أنها روسيا، بالتزامن مع دخول قوات “هيئة تحرير الشام” و”الجيش الوطني” المدعومة تركيا وأمريكيا و”إسرائيليا” إلى دمشق بعد أن بدأت يوم 27 نوفمبر 2024، أي في نفس اليوم الذي تمّ فيه توقيع وقف الحرب بين الكيان الصهيوني والمقاومة اللبنانية، هجوما كاسحا انطلق من الحدود الشمالية الغربية مع تركيا مرورا بأهمّ مدن سوريا: حلب ثم حماه ثم حمص. تمّ الهجوم ودخول المدن دون مقاومة تذكر، بل انسحب الجيش في مرحلة أولى ناشرا بيانات تتحدث عن “إعادة الانتشار” من أجل “حقن الدماء” ثم تبخّر بمعية أجهزة الأمن، ليتأكّد لاحقا أنّ الأمر يتعلّق بترتيبات مسبقة أُقرّت حسب العديد من المصادر في اجتماع الدوحة الذي جمع بين روسيا وإيران وتركيا وتمّ بموجبها التخلي عن بشار الأسد وحكم عائلته الذي استمر أكثر من نصف قرن فيما أعطي “ضوء أخضر” لحكومته وجيشه وأمنه وبرلمانه ومجمل مؤسسات نظامه كي تُسلَّم السلطة “سلميّا” للخليط “المعارض” ومتعدّد الولاءات والذي “تعهّد” لروسيا خاصة، بضمانات من أردوغان شريك واشنطن والناتو والكيان الصهيوني في مخطط الاستيلاء على سوريا وراعي تنفيذه المباشر، بعدم المساس بمصالحها أو على الأقل بالحد الأدنى منها.
وقد أثار انهيار نظام الأسد ردود فعل متضاربة بحكم تضارب مصالح مختلف الأطراف والجهات المعنية بالشأن السوري. لقد سارعت الأطراف المناوئة لحكم الأسد والداعمة للمجاميع الإرهابية التي تولت إسقاطه بمباركة “انتصار الثورة السورية”، وفيما اكتفت الأطراف التي كانت تدعمه بالصمت أو بقبول الأمر الواقع بعنوان “احترام إرادة الشعب السوري” وفيما عبّرت فئات واسعة من الشعب السوري عن الارتياح بنهاية نظام ظالم ومتجبّر بينما عبّرت فئات أخرى دينية وطائفية عن خشيتها ممّا يمكن أن يلحق بها من أذى في الوضع الجديد، فإن نسق الأحداث المتسارع وتداعياته المحتملة إقليميا ودوليا ظلّ يثير عديد الأسئلة من أجل فهم “الزلزال” الذي جرى في “قلب” منطقة تستقطب، بحكم موقعها ووزنها في المعادلات الجيواستراتيجية، اهتمام كبريات دول العالم الرأسمالية والامبريالية، القديمة والصاعدة، المتصارعة على مناطق النفوذ والتي تزن كل حدث بميزان الربح والخسارة. زد على ذلك علاقة ما جدّ في سوريا بما يجري في غزة ولبنان وبالمقاومة عامة فهو واقعيا امتداد له وستكون له انعكاسات مؤكدة عليها ولو لفترة من الزمن فقد كان النظام السوري من ضمن ما يسمّى “محور الممانعة” وسقوطه مطلوب امبرياليا وصهيونيا ورجعيا عربيا وتركيّا لقطع الحبل بينها وبين المقاومة. وأخيرا لا يمكن الاعتقاد أنّ الأمر لا يهمّ الشعب التونسي وشعوب المنطقة المغاربية عامة فالجميع، مشرقا ومغربا، مترابط بعضه ببعض وفي مرمى نفس القوى التي تخطّط للهيمنة على المنطقة بأسرها عبر مزيد تقسيمها وتمزيقها وهو ما يدعو إلى متابعة التحولات والصراعات الجارية في سوريا والمنطقة واستكشاف نتائجها المحتملة على مصائر شعوبنا التواقة إلى التحرر والوحدة في إطار ديمقراطي يضمن الحريات الفردية والعامة والمساواة بين الجميع كما يضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهو شرط النهوض الحقيقي والتقدم والازدهار.
نظام محكوم عليه بالفشل والانهيار
إن نظام “عائلة الأسد” هو، تاريخيا، أحد أبرز الأنظمة الدكتاتوريّة، الاستبدادية في المنطقة، وهو نظام طائفي رغم تغلّفه بقشرة بعثية قوميّة، وراثي بدأ مع الأب حافظ الأسد (1971-2000) ثم تواصل مع الابن بشار الأسد (2001-2024). وقد حكمت عائلة الأسد باسم “حزب البعث” ضمن نظام ظاهره قومي عربي وباطنه طائفي مقيت، نظام بغلاف مدني ومضمون عسكري، دموي (الأسد الأب كان عسكريا) أعطى اليد الطولى للمؤسسة العسكرية ولأجهزة المخابرات والميلشيات كي تستبدّ بالشعب السّوري وتحكمه بالحديد والنار وتحرمه من أبسط حقوقه السياسية والمدنية وتقصيه إقصاء تاما من المشاركة في الشأن العام وترتكب على حسابه جرائم فظيعة لعل أبرزها مجزرة حماه (أدّت إلى سقوط ما بين 20 و30 ألف ضحية، 1982) وتنكّل بقواه المعارضة السياسية والمدنية وتحول دون قيام مجتمع مدني، ديمقراطي ومتنوّع في منطقة كانت من أهم مراكز النهضة العربية الحديثة. كما أعطى هذا النظام الدكتاتوري الطائفة العلوية التي يتراوح حجمها بين 9% و12% نفوذا ضخما في مجتمع يتسم بالتعدد الديني والطائفي (إسلام، مسيحية، سنة، شيعة، دروز…) والعرقي (عرب، أكراد، تركمان…). وفيما يرفع النظام شعارات دعائية حول العدالة والاشتراكية، فإن الخيارات الاقتصادية التي أرسى عليها في النهاية، بعد فترة من رأسمالية الدولة توفرت فيها بعض المنافع الاجتماعية لعامة الشعب، هي خيارات نيوليبرالية التقت مع العقوبات الخارجية (حصار قيصر…) ليتسع معها نطاق الفقر والتهميش الذي لم يطل عموم الشعب السوري فحسب، بل أيضا المؤسسة العسكرية نفسها التي يعاني أفرادها من الجنود وصغار الضباط من البؤس والفاقة مقابل الامتيازات لكبار الضباط ممّا وسّع الفساد بأشكاله المتعددة صلب المؤسسة الأساسية للحكم والتي لم يكن صعبا استعمالها ضد بشار في اللحظة الحاسمة ممّا حدا ببعض المتابعين للشأن السوري إلى اعتبار ما جرى بمثابة الانقلاب من طرف المنظومة على رأسها. ومن جهة أخرى فلئن لبس نظام عائلة الأسد لبوس الدفاع عن القضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية فقد كان التوظيف أحد أهم العناصر في سلوكه إذ تعرّض الفلسطينيون على يده إلى إحدى المجازر الرهيبة في لبنان سنة 1976 (حوالي 3 آلاف شهيد من أبناء مخيم تل الزعتر). ولا يمكن أن ننسى اصطفاف حافظ الأسد سنة 1991 وراء الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا والسعودية ومصر حسني مبارك في العدوان الثلاثيني ضد العراق وهو العدوان الأول الذي مهّد لعدوان 2003 الذي انتهى إلى إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق وتمزيقه والسيطرة على ثرواته، وهو ما يتواصل إلى اليوم.
لقد انخرط الشعب السوري في الموجة الثورية الأولى التي انطلقت من تونس نهاية عام 2010 وبداية عام 2011، ورفع نفس المطالب والتطلعات التي انتشرت في كامل المنطقة بعد إسقاط نظامي تونس ومصر اللتين حافظت فيهما الثورة على مسارها المستقل ومطالبها السياسية والاجتماعية العادلة قبل الالتفاف عليها من قبل قوى الثورة المضادة المحلية بدعم دولي وإقليمي. ولكن مواجهة النظام السوري مطالب شعبه بالقمع الدموي وتقديم حراكه المدني السلمي على أنه “مؤامرة أمريكية صهيونية” بهدف إخفاء الطابع الدكتاتوري للنظام من جهة وطمس شرعية المطلب الديمقراطي من جهة ثانية، خلق أرضية مناسبة لتدخل القوى الأجنبية، دولية وإقليمية، للزج بسوريا في حرب أهلية رجعية ومدمرة ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى ومثلهم من المفقودين علاوة على التشريد القسري والتهجير لملايين النّاس على غرار ما حصل في كل من ليبيا واليمن حيث أدّى ردّ فعل نظامي البلدين القمعي والدموي إلى الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي وإلى سقوطهما في النهاية. وقد لعبت القوى الظلامية بمختلف تفريعاتها دورا حاسما في تدهور الوضع في سوريا خاصة بعد عملية التسليح والتدريب والدعم الإعلامي والتمويل الواسعة التي حظيت بها من قبل المخابرات الأمريكية الغربية والصهيونية والخليجية والتركية التي دخلت بقوة لتدمير نضال شعوب المنطقة وتمزيق وحدة مجتمعاتها وضرب المكاسب التي حققتها سابقا. وقد وصل الوضع ذروته من خلال صنع تنظيم “داعش” الإرهابي سليل تنظيم “القاعدة” داخل مطابخ القرار الدولي والإقليمي لمزيد السيطرة على المنطقة وعلى مقدراتها. وهذه العصابات هي التي تتحرك اليوم باسم “هيئة تحرير الشام” التي تقود غزو سوريا والتي استقطبت في زمن حكم حركة النهضة في تونس أعدادا هامة من الشباب التونسي فيما يعرف بعمليات “التسفير” والذي قتل منهم الكثير واعتقل منهم الكثير الآخر.
لقد جنى النظام السوري الثمرة المرة لقمع مطالب الشعب السوري وتطلعاته المشروعة للعيش في ظل نظام ينعم فيه بالحرية والعيش الكريم وفتح الباب لتدخل القوى الخارجية والاستعمارية والصهيونية والرجعية العربية-التركية والعصابات الإرهابية متعددة الأسماء والأشكال ولكنها ذات الجوهر العميل الواحد. وكان من نتائج ذلك اقتطاع مساحات هامة من أرض سوريا وخاصة في الشمال والشمال الغربي سواء لصالح تركيا أو الولايات المتحدة أو العصابات الإرهابية والمجموعات الكردية المتمردة المحكوم فيها أجنبيا وبالخصوص أمريكيا وهو ما أفقد سوريا سيادتها على أرضها ومقدراتها. وبات حاكم دمشق تحت رحمة الحماية الروسية المباشرة كما بات في حاجة إلى دعم الجار الإيراني الذي يدرك هو ذاته خطر تواجد قوى معادية على حدوده. وممّا عقّد وضع النّظام السوري في النهاية تفريطه في الفرصة الجديدة التي توفّرت له لتأمين استمراره بعد أن أنقذته روسيا وإيران وحزب الله سنة 2015 من السقوط. فقد أخلّ بالالتزامات التي انخرط فيها والتي احتواها القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 18 ديسمبر 2015 والذي حظي بموافقة روسيا وإيران نفسيهما، والداعي لانطلاق حوار في ظرف سنة وهو ما لم ينطلق إلا في جانفي 2017 في “أستانا” تحت إشراف الثلاثي الضامن (روسيا وإيران وتركيا) ومراقبة الأمم المتحدة والولايات المتحدة وبعض بلدان الجوار (الأردن) وذلك لتكريس محتوى القرار 2254 (خفض التوتر المسلح في مناطق النزاع وإنجاز فترة انتقالية تتزامن مع صياغة دستور جديد تشكلت لجنة مشتركة من أجله لكنها لم تتقدم في أشغالها، وتنظيم حوار سياسي يفضي إلى انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة وهو ما لم يتمّ). بالتوازي مع ذلك تواصل تدهور أوضاع الشعب السوري المادية بحكم فساد النظام وتحوله من نظم طائفي إلى نظام عائلي ضيّق، إضافة إلى تأثيرات الحصار الاقتصادي الأمريكي والغربي عامة. وهو ما يفسر اليوم “حالة الارتياح” لسقوط النظام الذي لم يقدم للشعب سوى الشعارات الديماغوجية.
نتائج وتداعيات خطيرة
إنّ التّدمير الممنهج للمجتمع السّوري عزّز تأثير القوى الأجنبية ونفوذ المجاميع الإرهابية التابعة لها والتي تضم في صفوفها آلاف المرتزقة. إن هذا النظام لم يسقط بأيادٍ سورية، عن طريق انتفاضة أو ثورة شعبية تقودها قوى نابعة من الشعب وحاملة لمشروع يعكس تطلعاته، بل بأدوات إقليمية ودولية تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح القوى الأساسية المتدخّلة فيها وهي الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وتركيا أردوغان الحالم باستعادة المجد العثماني وحلف الناتو. أمّا روسيا وإيران حليفا نظام الأسد فقد تراجع نفوذهما بانهياره علما وأنّ أحد الأهداف الكبرى للسيطرة على سوريا هو طرد روسيا المكبّلة بالحرب في أوكرانيا من المنطقة وعزل إيران التي تعاني بدورها من وضع اقتصادي داخلي صعب نتيجة العقوبات، استعدادا لضربها لاحقا لما تمثله من خطر على مصالح القوى الاستعمارية الغربية والكيان الصهيوني وأنظمة العمالة الخليجية التي تنتظر تدمير إيران أو تحجيمها وإدخالها في أتون صراعات داخلية مدمرة لتحقيق مشاريعها بأبعادها العسكرية والاقتصادية والتجارية في مواجهة مع الصين وروسيا. وما من شك في أن كل هذا لا يخدم في شيء مصالح سوريا وشعبها. إن سوريا مهددة جديا بالتقسيم إلى كنتونات على أسس طائفية وعرقية ووفقا لمصالح كل طرف من الأطراف المتصارعة بما فيها المجاميع الإرهابية التي يدين كلّ منها إلى جهة من الجهات. فلا يمكن للشعب السوري بطبقاته وفئاته الكادحة ونسائه وشبابه ومثقفيه ومبدعيه أن يحلم مع هذه المجاميع ورعاتها لا بالحرية والديمقراطية والسلم ولا بالرفاه الاقتصادي والاجتماعي ولا بالنهوض العلمي والحضاري.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن القضية الفلسطينية ستكون أول المتضررين من ملامح الوضع الجديد في سوريا والمنطقة. إن تدمير سوريا وتفكيكها هو امتداد للعدوان على غزة ولبنان وهو لا هدف منه سوى تحقيق هيمنة الكيان الصهيوني على المنطقة وسدّ منافذ وصول الدعم للمقاومة. إنّ غزاة سوريا لا إشارة في خطابهم إلى القضية الفلسطينية وإلى الاحتلال الصهيوني للجولان السوري بل إن زعيمهم لم يتخلف عن التعبير عن شكره للكيان الغاصب الذي ساعد المجاميع الإرهابية على الوصول إلى الحكم ووعد بالاعتراف به والتطبيع معه. وهم اليوم لا يتحركون بل لا يظهرون أيّ اهتمام بما يرتكبه الكيان الغاصب من اعتداءات على سوريا. فقد دخل أراضيها وأسقط ترتيبات 1974 الخاصة بالحدود بين الكيان وسوريا واحتل المنطقة العازلة وهو اليوم على بعد حوالي عشرين كيلومتر من دمشق مؤكدا نواياه في ضمّ أراضي جديدة بشكل دائم لما كان يحتله سابقا. ومن جهة أخرى فإنه بصدد شن مئات الغارات الجوية المكثفة على المنشآت العسكرية السورية الاستراتيجية (تدمير الأسطول الجوي والبحري ومنظومات الصواريخ) ومراكز البحث العلمي العسكري والمدني والكل يهدف إلى تدمير عناصر القوة المكتسبة في سوريا بفضل مجهود أبنائها وبناتها وتحويلها إلى بلد منزوع السلاح ومقلّم الأظافر وهو ما يتمّ بمباركة أمريكية غربية وتركية وعربية رسمية. وفي هذا السياق تتالت التصريحات الأمريكية والغربية الداعمة للغزاة الجدد استعدادا لسحب أسمائهم وأسماء مجاميعهم (هيئة تحرير الشام…) من لائحة القوى الإرهابية التي حددتها الأمم المتحدة وحتى الدول الامبريالية (أمريكا، بريطانيا…). أمّا في تركيا فقد تعالت الأصوات “العثمانيّة” المهلّلة “بعودة حلب” إلى “مهدها الأصلي”… تعبيرا عن أطماع أردوغان وعصابته في اقتسام “الغنيمة السورية” واستغلال الفرصة لقبر القضية الكردية وهو ما سيجعله في مواجهة مع الجماعات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة. أمّا أنظمة العمالة العربية فقد أدت مهمتها خدمة للوحش الأمريكي الصهيوني التركي ومشاريعه في المنطقة وهي لا تدرك بكل غباء أنّها ليست خارج تلك المشاريع وأن دورها آت لا ريب فيه، رغم حالة الفزع التي بدأت تظهر عند بعض الأنظمة هنا وهناك (مصر، الأردن…) والتي تصرّ على توخّي نفس السياسات القمعية التي لا تؤدي في النهاية إلا لتعزيز أسباب السقوط.
إن تداعيات ما يحدث الآن في وسوريا ستكون ولو ظرفيّا لحساب تعزيز وتوسيع النفوذ الأمريكي والصهيوني والتركي في ظل خنوع غير مسبوق للأنظمة العربية من ناحية، وضعف القوى الوطنية والشعبية رغم المجهودات الجبارة التي بذلتها المقاومة الفلسطينية واللبنانية والتي كلفتها الكثير من التضحيات من جهة أخرى. كما أن هيمنة القوى الإرهابية على سوريا لن تكون لصالح الشعب السوري ولا المنطقة ولا القضية الفلسطينية. بل سيكون ذلك لحساب نفخ الروح في الحركات الظلامية والمجاميع الإرهابية كأداة من أدوات التحكم وإعادة صياغة خريطة المنطقة في إطار ما يسمّى “بالشرق الأوسط الجديد” الذي يمتدّ إلى شمال إفريقيا. إن هذا المخطط يهدف إلى مراجعة اتفاقيات سايكس-بيكو التي قسّمت الوطن العربي والشرق الأوسط عامة إلى دويلات لتسهيل السيطرة عليه وعلى مقدراته في اتجاه إعادة تقسيم هذا المقسّم وتفتيت هذا المفتّت على أسس دينية وطائفية وعرقية هذه المرة لتأبيد المصالح الاستعمارية الغربية وضمان تفوق الكيان الصهيوني في المنطقة وقبر القضية الفلسطينية وتهويد فلسطين بالكامل وفسح المجال للتطبيع مع هذا الكيان في إطار “صفقة القرن” و”اتفاقيات أبراهام”. وهو ما سيكون من نتائجه أيضا تحجيم مظاهر النفوذ الروسي والصيني المتنامي في المنطقة وعزل النظام الإيراني وترك شعوب المنطقة عامة في حالة تخبط وتناحر أبديين. وكما أشرنا إلى ذلك أعلاه فإن الأنظمة الرجعية العربية وفي مقدمتها مصر التي عملت وتعمل في ركاب واشنطن وتل أبيب ظنّا منها أنّ ذلك سيوفر لها الحماية الأبدية فإنّ دورها آت لا ريب فيه لأنّ مشروع التّفتيت لا يستثنيها أبدا مثلما لم يستثن السودان التي تعرضت إلى التقسيم في السابق وهي اليوم ميدان صراع داخلي مدمّر بين الجيش وميلشيات “الجنجويد” ولكلّ منهما داعموه الدوليون والإقليميون، كما لم يستثن ليبيا المقسّمة واقعيّا إلى شرق تحت الحماية الروسية/المصرية/الإماراتية وغرب تحت الحماية التركية، واليمن المنقسمة فعليا ومؤسساتيا إلى شمال مرتبط بـ”محور المقاومة” وجنوب خاضع للسيطرة السّعودية.
وفي هذا السياق لن تكون تونس في مأمن من هذه الترتيبات باعتبار موقعها كمنطقة عبور أفقية وعمودية نحو بلدان شمال إفريقيا وبلدان الساحل وجنوب الصحراء (مالي، النيجر، بوركينا فاسو، تشاد…) حيث تتزايد مظاهر الصّراع على مناطق النفوذ بين الدول الامبريالية التقليدية (فرنسا أساسا) وبين الدول الأخرى الصاعدة (الصين وروسيا) وحيث تنتشر الجماعات الإرهابية والمرتزقة. وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن استبعاد عودة الإرهابيين التونسيين الذين أطلق سراحهم من سجون بشار الأسد. كما أنه لا ينبغي نسيان لا المجاميع الإرهابية الناشطة في الغرب الليبي ولا التواجد التركي غير البعيد عن حدودنا. وبطبيعة الحال فإن الجارة الجزائر لن تكون في مأمن من مخططات التمزيق الواردة في مشروع “الشرق الأوسط الجديد” للسيطرة على ثرواتها الطبيعية الهائلة واستغلال موقعها الاستراتيجي. ولا يمكن النظر إلى تعاظم النفوذ الصهيوني الامبريالي الغربي في مغرب محمد السادس وضخ الأسلحة إلى نظامه خارج هذا الإطار. ومن المؤكّد أن الوحش الاستعماري الصهيوني سيعمل على استغلال مواطن الضعف والوهن السياسيين والأمني والاقتصادي والاجتماعي سواء كان ذلك في تونس أو الجزائر لتوظيفه.
ما يجب وعيه وما يجب القيام به
إن هذه المستجدات الخطيرة تفرض على القوى الوطنية والديمقراطية في سوريا وفي المنطقة وفي بلادنا وعيا يجب إدراكه ومهمات وجب الاضطلاع بها للتصدي للتداعيات المحتملة لهذه المستجدات. فإذا كان للقوى الاستعمارية الأمريكية الغربية والكيان الصهيوني وحاكم تركيا وأدواتهم حساباتهم فينبغي أن يكون للشعوب والقوى الوطنية والثورية والتقدمية وحركات المقاومة مخططاتها لإفشال تلك الحسابات وهو أمر ضروري وممكن. وعلى هذا الأساس إن حزب العمال إذ يجدد انحيازه للشعب السوري الشقيق الذي عانى أشد المظالم تحت نظام عائلة الأسد وتعرّض لأبشع التدخلات الأجنبية الدولية والإقليمية وإذ يعبّر عن انتصاره لتطلعاته الديمقراطية فإنه:
1. الشعب السوري وتقرير المصير
- يهيب بالشعب السوري بعمّاله وكادحيه ونسائه وشبابه ومثقفيه ومبدعيه من مختلف الديانات والطوائف والأتنيات بأن يحذر الغزاة الجدد لأنهم ليسوا محرِّرين بل صنائع القوى الاستعمارية والكيان الصهيوني وتركيا أردوغان وخدم مشروعهم الرامي إلى تمزيق وحدة سوريا وتقاسم النفوذ فيها وفي المنطقة وخاصة ضرب المقاومة وقبر القضية الفلسطينية. إنّ من بين الدروس الكبرى التي تعلمنا إيّاها التجربة أنّه لا يكفي التخلص من نظام عائلة الأسد الاستبدادي لتحقيق الخلاص بل لا بدّ من التفكير في من سيعوضه حتى لا تقع سوريا مجددا بين مخالب نظام استبدادي جديد على يد الغزاة الجدد قد يكون أشنع من سابقه.
- كما يهيب بالشعب السوري الشقيق وقواه الديمقراطية من أحزاب ومنظمات ونقابات وشخصيات ومثقفين ومبدعين بالالتفاف حول برنامج إنقاذ وطني يحقق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ويكرّس السيادة الوطنية بإخراج كل الغزاة من أرض سوريا وسحب القواعد العسكرية الأمريكية والتركية والروسية منها، والتمسك بتحرير الأراضي السورية المحتلة ودحر العدوان الصهيوني المتمدد منذ وصول المجاميع الإرهابية إلى دمشق والانتصار للقضية الفلسطينية ودعم المقاومة التي تمثّل الحليف الاستراتيجي الحقيقي لسوريا وشعبها.
- يؤكّد قناعته بأن سوريا في حاجة إلى نظام يضع حدّا للاستبداد والدكتاتورية ويعبّد الطريق نحو الحرية والمساواة في إطار المواطنة الكاملة والفعلية التي تقضي على كل أنواع التمييز بسبب الدين أو الطائفة أو العرق أو القومية أو الجنس والتي تضمن أيضا حلّا ديمقراطيا للمسألة الكردية التي ظلت منذ قرون ورقة ابتزاز في يد الاستعمار وأنظمة المنطقة.
شعوب المنطقة وواجب التضامن والتصدي
- يدعو كل قوى الحرية والتقدم في المنطقة إلى أن تعي خطورة انعكاسات ما يجري في سوريا على أقطارنا وشعوبنا وهو ما يتطلب منها الوقوف بقوة إلى جانب الشعب السوري في هذه اللحظات الحرجة والابتعاد عن الحسابات الضيقة. إنّ القوى الثورية والتقدمية في تركيا مدعوة إلى التصدي للأطماع التوسعية لحاكمها أردوغان والضغط عليه من أجل الخروج من سوريا واحترام سيادة أراضيها والكف عن دعم المجاميع الإرهابية والتعاون مع الكيان الصهيوني الغاصب والفاشي.
- يدعو الشعوب العربية وقواها الثورية والتقدمية والوطنية إلى إدراك خطورة الوضع الحالي على الشعب الفلسطيني وقضيته ومقاومته كما على الشعب اللبناني ومقاومته وإلى تشكيل جبهة شعبية عربية لدعم المقاومة والتصدي للتدخل الامبريالي عبر الأنظمة العميلة. إن كل ما يجري من مؤامرات وانقلابات واعتداءات محوره القضية الفلسطينية التي يُراد قبرها والانتهاء منها لفتح “عهد جديد” بقيادة نظام ابن سلمان قوامه التطبيع مع الكيان الغاصب في إطار “صفقة القرن” و”اتفاقيات أبراهام” الترامبيّة. ومن المعلوم أن طوفان الأقصى هو الذي أوقف هذا المشروع الذي سيكون مآله في النهاية الفشل والانكسار لأن الشعوب العربية لن تقبل به مهما بلغت عجرفة الامبريالي الأمريكي ووحشية الكيان الغاصب.
- يهيب بالشعوب العربية كي تستخلص الدرس الكبير من سقوط نظام عائلة الأسد الاستبدادي. إن الطغاة لا يبنون الأوطان ولا ينهضون بالشعوب وإنّما يمزّقونها ويدمّرونها ويسبّبون لها المهانة ويحكمون عليها بالتخلّف ويصيبونها بالوهن الذي يسمح للقوى الاستعمارية الأجنبية بالتسلل إليها والهيمنة عليها. إن الشعوب العربية مطالبة الآن وهنا بمسك مصيرها بيدها والتقدم نحو تحقيق تحررها ووحدتها على أسس ديمقراطية وشعبية ثابتة. إن شعوبنا جديرة بالتحرر والاستقلال والديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية وهو أمر موكول إليها ولا يمكن أن تهبه إيّاها لا القوى الأجنبية ولا صنائعها في الداخل وإنما تكون من إنجازها ومن إنجاز القوى التي تعبّر حقا عن مصالحها.
- يؤكّد أنّ ما “تنعم” به أنظمة العمالة والخيانة في منطقتنا العربية وخاصة في الخليج من استقرار ظاهري إنما هو ناتج عن أوضاع ظرفية لا عن سلامة هذه الأنظمة السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فهذه الأنظمة هي الأكثر تخلفا ووحشية واستبدادا وانتهاكا لحقوق الأفراد والنّساء والأقلّيات في العالم وإنّما هي تقتات اليوم من عمالتها وخيانتها ومن كثرة أموالها وما توفره لها من حماية خارجية ولكن أيضا من تأخر الوعي السياسي في مجتمعاتها، وهو أمر لن يدوم. فرياح التحرر سوف تعصف بها وبحماتها من قوى استعمارية وصهيونية إن عاجلا أو آجلا.
- يدعو كل القوى الثورية والديمقراطية التقدمية في العالم المعادية للإمبريالية والاستعمار والصهيونية إلى الوقوف إلى جانب الشعب السوري ومساندته من أجل تحقيق حلمه في بناء نظام وطني، ديمقراطي وشعبي وطرد كل القوى الأجنبية جيوشا ومرتزقة وقواعد عسكرية من أرضه. كما أنه يدعوها إلى وعي ما يتهدد السلم العالمي من حرب كونية كارثية جراء التوترات في المنطقة التي تغذّيها وتشعل فتيلها بشكل مستمرّ الامبريالية الأمريكية.
ليكن الشعب التونسي يقظا ومتحصّنا
- كما يدعو الشعب التونسي وقواه التقدمية إلى مزيد اليقظة والاستعداد للتداعيات السياسية والأمنية لما يحدث في سوريا وفي مجمل المنطقة، وهو ما يتطلب دعم وإسناد الشعب السوري الشقيق ومضاعفة الجهد لإسناد القضية الفلسطينية حتى لا يستفرد معسكر الأعداء بشعب فلسطين من أجل تصفية قضيته تصفية نهائية، واستخلاص الدروس من تجربة نظام الاستبداد في سوريا الذي تهاوى في بضعة أيام لغياب الإسناد الشعبي الحقيقي رغم النسب التسعينية في الانتخابات الصورية وضخامة أجهزة القمع والقهر.
- يؤكّد أن تحصين وطننا يتطلب من الشعب التونسي التصدّي للاستبداد الشعبوي الذي يضرب الحريات وينتهك الحقوق ويدوس مبدأ المساواة ويلقي بمعارضيه ومنتقديه والمحتجين عليه في السجون أو يدفع بهم إلى المنفى وينشر خطاب الكراهية والحقد ويستعدي التونسيين بعضهم على بعض ويعرّض البلاد إلى الإفلاس والشعب إلى البطالة والفقر والبؤس والجوع والمرض والتجهيل نتيجة إغراق البلاد في المديونية وتفكيك منظومات الإنتاج ومواصلة تدمير الخدمات الاجتماعية والبيئية والثقافيّة، وهي كلها عوامل تضعف وحدة الشعب وتلغم مناعة الوطن وهو ما قد يجعله فريسة سهلة لأعدائه في الداخل والخارج.
وفي الختام فإن قناعتنا عميقة بأن الشعب السّوري الأبي سيتغلّب على الصعاب ويرسم الطريق للتصدي لأعدائه في الداخل والخارج كما أن قناعتنا عميقة أيضا بأن فلسطين ستبقى البوصلة وأن المقاومة في غزة والضفة ولبنان لن تهزم بل إنها ستتوسّع مع توسع الطغيان الامبريالي الصهيوني الرجعي وتزداد صلابة وإصرارا على الانتصار وهو ما يتجسّد اليوم في أروع صور الصمود في غزة والضفّة حيث تتواصل العمليات النوعية ضد الاحتلال بلا انقطاع وفي لبنان حيث اضطر الوحش الصهيوني على التراجع. كما أنّ ثقتنا كبيرة في أن شعبنا وباقي الشعوب العربيّة لن تتأخر عن النهوض في وجه مضطهديها ومستغلّيها لتحقق حريتها واستقلالها وانعتاقها الاجتماعي.
حزب العمال
تونس، في 11 ديسمبر 2024