الرئيسية / الافتتاحية / قيس سعيد والوحدة الوطنية: المغالطة والضحك على الذقون
قيس سعيد والوحدة الوطنية: المغالطة والضحك على الذقون

قيس سعيد والوحدة الوطنية: المغالطة والضحك على الذقون

دخل علينا العام الجديد وحال تونس وشعبها في أسوأ ما يمكن أن يكون عليه وضع. الميزانية الجديدة تجرأ حتى بعض نواب مجلس الدمى على توصيفها بأكثر حتى ممّا نصفها نحن في المعارضة الجذرية، فإجراءاتها وأهدافها ليست سوى تجريع للسم لشعب بلغ فيه التفقير والتهميش والتيئيس درجة غير مسبوقة. لقد بلغت المديونية والضريبة مستويات شبّهها البعض بما كان سائدا زمن الباي. دخل العام الجديد وشعب تونس في طوابير طويلة من أجل الحصول على قارورة غاز منزلي بسبب موجة برد لم تتجاوز الأسبوع الأخير من العام المنقضي. لكن أزمة الغاز مازالت متواصلة الى اليوم. كما دخل العام الجديد وآلاف الأساتذة والمعلمين النواب الذين يشتغلون في إطار نظام سخرة عبودية يضطرون إلى الإضراب المفتوح رفضا للتلاعب الذي تورّط فيه حتى ساكن قرطاج الذي صرّحت وزيرته للتربية المقالة سلوى العباسي أنه “أمرها” بترسيمهم لكن الأمر بدا لاحقا أنه مجرد مزحة سمجة. دخل العام والأسعار تعانق السماء والخدمات تسوء، وصلت حدّ وصول قطار قابس الى العاصمة بعد 13 ساعة وكأنه يقطع عرض الصحراء الكبرى. دخل العام وعدد المهندسين المغادرين للبلد قد بلغ الـ8500 مهندسا سنة 2024، فيما ناهز عدد الأطباء المهاجرين الـ1450 طبيبا حسب الاحصائيات الأولية ويشهد قطاع الجامعيين نفس الموجة خاصة بعد تداول برلمان الدمى فكرة تسليط “عقوبات” جبائية على هؤلاء المهاجرين “الناكرين لجميل بلادهم”. دخل العام وفلاحو تونس يرمون صابة الزيتون في الشارع رفضا لعملية التدمير الممنهج التي طالتهم وطالت منتوجهم الذي سمّيت باسمه البلاد. وطبعا دار العام والسجون تستقبل معتقلين جدد من نشطاء وإعلاميين ونقابيين وسياسيين.
ليس هذا فحسب، فقد أقبل العام الجديد والأخبار القادمة من الشرق ومن سوريا تحديدا تشي بسيناريوهات طالما فجعت بلادنا التي “صدّرت” آلاف التكفيريين بغطاء رسمي استمرّ لسنوات أثناء حكم النهضة وحلفائها، وهاهم اليوم، أولئك المسفرون يتحوّلون بين ليلة وضحاها إلى حكام لهذا البلد الذي يعتبر سرّة الشرق. إنّ التحوّلات الحاصلة في هذا القطر ماهي إلاّ جزء من خطة كاملة تقف وراءها الامبريالية والصهيونية والرجعية الإقليمية بقيادة تركيا وقطر قائدتي المحور الإخواني التكفيري الإرهابي. بقية الخطة هي إعادة صياغة المنطقة على أسس جديدة هي أسس طائفية واثنية حيث تلعب القوى التكفيرية دورا محوريا كأداة وظيفية لتحقيق أهداف القوى الكبرى المتصارعة من أجل مزيد وضع اليد على المنطقة ومقدراتها.
إن بلادنا وإقليمنا المغاربي والشمال أفريقي مستهدف وهو جزء حيوي في خطة الشرق الأوسط الجديد بما يعني واقعيا تداعيات سياسية وتعقيدات أمنية يجب أن تتجهّز لها بلادنا. فهل تونس بوضعها الحالي قادرة على مواجهة التحديات كما قال قيس سعيد مستعيدا شعار سلفه الدكتاتور المخلوع بن علي “معا لرفع التحديات”، وبماذا سيرفع هذه التحديات؟ وهل فعلا لديه شروط الوحدة الوطنية الصماء التي تحدّث عنها يوم 17 ديسمبر الجاري في بنقردان لعبا على رمزيات أصبحت ممجوجة ولا تستقطب اهتمام الشعب الذي يشغله غلاء المعيشة وضنك العيش أكثر من خطابات المغالطة الشعبوية.
إنّ بلادنا اليوم تقف في منعرج صعب ودقيق. إنّ موقعها الجغراسياسي يعرّضها لأوضاع مستجدّة هي اليوم غير قادرة على مواجهتها والصمود أمامها بحكم الهشاشة الهيكلية التي تطبعها على مختلف الأصعدة. إنّ ضمانة الصمود، كما يثبت يوميا، هو مناعة المجتمعات والبلدان وقدرتها الذاتية على التصرف من خلال فعالياتها وأطر تنظمها المدني من أحزاب ومنظمات ونقابات. إنّ غياب هذه الأطر أو تدميرها من قبل الدول المستبدّة له فاتورة غالية حين تتعرّض البلدان إلى الغزو أو الاستهداف. فتونس أنجزت ثورة مميّزة سنة 2011 بقدرة تعبيراتها المنظمة وتقاليدها الحزبية والنقابية والمدنية الضاربة في تاريخها وهو ذات الحال نسبيا في مصر ثم السودان رغم هيمنة المؤسسة العسكرية، أمّا النموذج الليبي مثلا فارتبط بالتدمير الكلي للمجتمع المدني بما سهّل السطو على إرادة الشعب من خلال العصابات التكفيرية والإجرامية والمثال السوري صارخ في هذا الصدد. فتدمير المجتمع المدني رغم عراقته له اليوم كلفة غالية تتجلى في ضعف مقاومة الجسم الاجتماعي للطاعون الغازي.
إنّ كلفة سياسة قيس سعيد ستؤدي إلى نفس النتائج إذا لم يتحمّل الشعب التونسي وقوى المجتمع المدني والسياسي مسؤولية التصدي لخطط تفكيكه واستئصاله والدفاع عن وجوده في وجه السياسات الإمبريالية التي تريد وأد تطلّعات هذه المنطقة وآمال شعوبها في التحرر والانعتاق والوحدة.

إلى الأعلى
×