الرئيسية / صوت الثقافة / كيف قرأ أحمد الحاذق العرف “اللّحمة الحيّة” لصالح القرمادي؟
كيف قرأ أحمد الحاذق العرف “اللّحمة الحيّة” لصالح القرمادي؟

كيف قرأ أحمد الحاذق العرف “اللّحمة الحيّة” لصالح القرمادي؟

بقلم إبراهيم العثماني

مقـدّمة:

أحمد الحاذق العرف مثقّف تونسيّ غزير الإنتاج، متعدّد الاختصاصات يعسر حصره في خانة أدبيّة محدّدة. أدمن الكتابة منذ سبعينات القرن العشرين وخاض معارك أدبيّة عديدة أغنت تجربته النّقديّة ودعّمت رصيده في الإنتاج ونحتت اسمه بين أدباء تونس المرموقين. فكان من أبرز نقّاد حركة الطّليعة الأدبيّة بتونس (1968-1972) إلى جانب محمد صالح بن عمر، وكان له إسهامه المتميّز في النّقد المسرحي (المسرح التّونسي وعوائق التّجاوز)، وتقويم الشّعر التّونسي وشعر الطّليعة بالخصوص.
وقد ارتأينا، ونحن نودّعه مع حلول العام الجديد، أن نعود إلى مقال خصّ به شعر صالح القرمادي (1933-1982) وكتبه بعد صدور المجموعة الشّعرية “اللّحمة الحيّة” بسنة واحدة. فبم تميّزت هذه الدّراسة؟

ولكن قبل التّطرّق إلى مضمون هذا النّصّ نودّ أن نقدّم، ولو بإيجاز، هذه المجموعة ومؤلّفها.

في التّعريف بـ”اللّحمة الحيّة” وصالح القرمادي:

نشرت دار سيراس بتونس ديوان “اللّحمة الحيّة” سنة 1970، وهو ديوان يحتوي على عشرين قصيدا يضاف إليها قصيد آخر سمّاه “بإسبانيا” وهو ترجمة لإحدى قصائد الشاعر الفرنسي بول إيلوار (1895-1952)، كما أهدى القرمادي هذا الشّاعر قصيدة “الضّمان” وختم هذه المجموعة بترجمة القصيدين الأخيرين: غياب (absence) وحضور (présence).
ويلاحظ قارئ هذه الأشعار أنّها تحرّرت من التّفعيلة الخليليّة واستنّت لنفسها إيقاعا مخصوصا، وأصّلت نفسها ضمن تيار شعري حداثي بدأ يفصح عن هويته منذ نهاية ستينات القرن العشرين، كما يتبيّن هذا القارئ ازدواجيّة لسان الشّاعر. وهي ازدواجيّة تكشف ولعه بالتّرجمة وتضلّعه من اللّسانين الفرنسي والعربي على حدّ سواء، ولمزيد الاطّلاع على ما كتبه القرمادي وما ترجمه يمكن الرّجوع إلى كتيب موسوم بـ” صالح القرمادي والتعدّد اللّساني” – تأليف الطيب البكوش وصالح الماجري – منشورات كلية الآداب بمنوبة 1993.
ولعلّ هذا التّقديم المختصر ييسّر لنا السّبيل للانتقال إلى النّظر في مقال العرف.

شعر القرمادي بين الفنّ والواقع:

هذا هو عنوان المقال الّذي تخيّره العرف لدراسة شعر القرمادي، وقد نُشر بمجلّة “ثقافة” / مجلّة دار الثّقافة ابن خلدون، تونس / عدد 6 – مارس أفريل 1971 ص ص 67-75. وعنوان المقال صريح يوجّه القارئ ويحدّد له منهج النّاقد المتمثّل في الغوص على مقوّمات شعر القرمادي الفنية ومداليلها الواقعيّة.
وقد تجلّى هذا الاختيار منذ مفتتح الدّراسة حيث يحتجّ العرف برأي تواطأ عليه النقاد – دون أن يذكرهم – مُفاده أنّ لغة القرمادي مختلفة تدوس مقوّمات اللّغة العربيّة الفصحى، وأنّ شعره يتجاوز قافية الخليل المألوفة.
وينبري النّاقد معلّلا اختيار الشّاعر القرمادي بأنّ زمننا لم يعد زمن “الشّاعر الكائن الأثيري المقدّس” وبأنّ “الشّعر الجميل لم يعد من صنع الآلهة” وبأنّ مقولة “الفنّ للفنّ” و”الفنّ لعب” و”الفنّ فرار” قد ولّى عهدها. ويحدّد مفهوم الفنّ فيقول: “لقد أصبح الفنّ موقفا حضاريّا، مجابهة، تحدّيا…” (ص67).
وهذه التّوطئة أشبه ببيان (manifeste) يؤكّد من خلاله العرف أنّ هذا المنحى الّذي تخيّره القرمادي ليس وقفا عليه هو فحسب بل هو توجّه يُلزم المنتسبين إلى حركة الطّليعة الأدبيّة في تونس وهو واحد منهم، والسّاعين إلى تجاوز “عروض الخليل وتفاعيله” واستنباط تفعيلة أخرى مستمدّة من صخب الحياة، واعتبر أنّ موقف الرّافضين للتّجديد والمحافظين على القديم عبارة عن “إرهاب فكريّ” يوظّفه بعضهم لعرقلة مسيرتنا الطّليعيّة، واقفا حجرة عثرة في وجه المحاولات التّجديديّة رافضا قيمها ومقاييسها” (ص67).
هكذا نتبيّن أنّ العرف تسلّح بهذا الجهاز المفهومي المتجاوز للسّائد في السّاحة النّقديّة في تلك الفترة وأقبل على مقاربة مجموعة “اللّحمة الحيّة” بروح متحرّرة من القوالب النّقديّة المتوارثة والّتي يعتبرها عائقا أمام فهم تحوّلات العصر والتّفاعل معها.
وقد استأنس، في هذه القراءة، بكتابات بعض شعراء فرنسا باحثا عن نقاط التّماهي بين تنظيراتهم ومداليل شعر القرمادي. لذا استدعى قول جاك بريفر (1900-1977) “شعره ابن الشارع وخاصّة شارع فرنسا” فوجد مقابلا له في شعر القرمادي. فهو “ابن الشّارع وخاصّة شوارع تونس الشّعبيّة”. ويعتبر العرف هذا التّوجّه ثورة على “بورجوازيّة المضمون” و”بورجوازيّة الشّكل”.
ويعمّق النّاقد النّظر في هذه المسألة ويؤكّد أنّ القرمادي تخلّص من الكتابة في الأغراض الشّعريّة المستهلكة من قبيل النّسيب والغزل والمدح والبكاء..، ويتفاءل خيرا بميلاد شاعر شعبيّ يعيش من الشّعب وللشّعب (ص68)، و”شعر بروليتاري هادف فيه ثورة، وفيه شفقة، وفيه حنان وفيه إنسانيّة” (ص68).
كما يلاحظ العرف تأثّر القرمادي ببول إيلوار الّذي صرّح قائلا: “إنّ الشّعر في الحياة”. ويجد صدى لهذا القول في قصيد “نهجنا” الّذي هو أحد أنهج العاصمة الشّعبيّة. وهذه الصّور مستمدّة من الحياة اليوميّة بل إنّ بعض أبيات “نهجنا” تشبه ما ردّده ماياكوفسكي (1893-1930) (يستشهد العرف ببيتين لتدعيم كلامه). ويؤكّد أنّ القرمادي متأثّر بالسّرياليّة الّتي اكتسبت مفهوما جديدا في البيئة العربيّة (ثورة على رتابة الشّعر العربي).
وحديث ناقدنا عن المضامين لم ينسه التّوقف عند الأساليب الّتي توسّل بها الشّاعر للتّعبير عن القضايا الّتي طرحها في هذه الأشعار من قبيل السّخرية والتّهكّم والصّور الكاريكاتوريّة، والتّصرّف في اللّغة وتقديم صورة مفارقة للمعتاد (انظر قصيد “نهجنا” حيث تتجرّد اللّغة من معناها الدّلالي وتكتسب معنى إيحائيّا).
ويعرّج في نهاية المقال على العاميّة في شعر القرمادي ويورد موقف نورالدّين صمود الرّافض لاستعمالها في الشّعر، ويرى أنّ “هذه النّظرة فيها شيء من البورجوازيّة” (ص74)، ويستعين، هذه المرّة، بكلام بلزاك (1799-1850) الّذي يعيب فيه الشّعراء الّذين “غالبا ما يستبدلون الحقيقة بصورة أو بزينة كي يجدوا القافية” (ص74).

خاتمة:

هكذا بدا أحمد الحاذق العرف متحمّسا لموجة التّجديد الّتي يمثّلها ديوان “اللّحمة الحيّة”، مشيدا بإضافاتها الّتي تبشّر بميلاد تيّار شعري طلائعيّ يقطع مع المواضيع المجترّة والقوالب الجامدة والصّور المستهلكة، ويرتاد عوالم جديدة لم يألفها الذّوق الأدبي. ولعلّ هذا الحماس يُعزى إلى استجابة شعر القرمادي لقناعات العرف الفكريّة والأدبيّة. وما يشفع لنا بهذا القول هو أنّ الجهاز النّقدي الّذي توسّل به الناقد يستقي مفاهيمه من المقولات الماركسيّة المتداولة في ساحة النّقد الأدبي العربي في ستينات القرن العشرين من قبيل “أدب بورجوازي” و”أدب بروليتاري”، وأدب واقعي “يعكس” حياة الشّعب وآماله وطموحاته، وأدب مثالي يحلّق في عوالم المثل والأوهام. ولا غرابة “إن وقع الحافر على الحافر”. فصالح القرمادي منتظم في الحزب الشيوعي التّونسي ولا يخفي هويّته الإيديولوجيّة وأحمد الحاذق العرف متشيّع للفكر الماركسي متمثّل مقولاته النّقديّة في مجال الأدب، ساع إلى تقويض أسس الخطاب النّقدي السّائد وهو ينشد تأسيس خطاب جديد.

إلى الأعلى
×