بقلم حبيب الزموري
سبق وأن تطرقنا في مقالات سابقة في “صوت الشعب” لنشأة مفهوم الفوضى الخلاقة بوصفه أحد المنتوجات الإيديولوجية لدبابات الفكر اليميني المحافظ المتطرف في العالم الرأسمالي. ما يمكن إضافته في هذا السياق هي إسهامات المستشرق البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية اليهودي الديانة برنار لويس سنة 1983 نظرية “الفوضى الخلاقة Creative Chaos” بوصفه من كبار المستشارين الذين تلجأ إليهم الإدارة الأمريكية منذ سبعينات القرن الماضي بل إنه يعتبر من المقربين من هنري كيسنجر كبير مهندسي السياسة الخارجية الأمريكية وواضع توجهاتها الاستراتيجية الكبرى.
جاءت هذه النظرية حافلة بالإيحاءات الأيديولوجية الأسطورية المرتكزة على أسطورتَي العماليق والأغيار (الغوييم) والتي لا تؤمن بوحدة الأصل الإنساني وتكافؤ البشر في العالم، وهي التي تحصر الطبيعة والصفات الإنسانية فقط في شريحة “شعب الله المختار” بصفة خاصة، و”المليار الذهبي” بشكل عام. فوفقاً للأساطير الصهيونية، فإنّ الصهيوني هو وحده من تنطبق عليه الشروط المؤهلة لحمل صفة الإنسان، فيما غيره من البشر ليس إلا صورة حية من صور الشرّ توصف بالأغيار تارة، وبالعماليق تارة أخرى. هذه الهالة الدينية الأسطورية المقدسة التي لطالما دبّجت الخطاب السياسي الأمريكي اليميني المتطرف منذ عهد الرئيس رونالد ريغن كلما قرعت الامبريالية طبول الحرب وليس أدلّ على ذلك من تصريح الرئيس جورج بوش الابن “بأن الله كلفه بإنهاء الطغيان في العراق”.
من أبرز تصريحات برنار لويس تصريحه لوكالة الإعلام الأمريكية يوم 20 ماي 2005 “إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمّر الحضارات وتقوّض المجتمعات ولذلك فإنّ الحلّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية. وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإنّ عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة لتجنّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان. إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم، أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال لديهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك: إمّا أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمّروا حضارتنا.. ولا مانع من أن تكون مهمتنا المعلنة هي: تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية.. ويجب أن تقوم أمريكا بالضغط على قياداتهم الإسلامية (دون مجاملة ولا لين ولا هوادة) ليخلّصوا شعوبهم من المعتقدات الإسلامية الفاسدة.. ولذلك، يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، قبل أن تغزو أمريكا وأوروبا وتدمّر الحضارة فيهما”. وقد اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية “الفوضى الخلاقة” استراتيجيةً لعملها بديلاً للعمل العسكري المباشر لا سيّما بعد تجربتها المريرة في فيتنام لفاعلية الفوضى ولقلة كلفتها. لم يكن من باب الصدفة بالمرة أن تطرح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس مصطلح الفوضى الخلاقة في مؤتمر منظمة إيباك السنوي في 2 نوفمبر 2005 بعد اكتمال أسسه النظرية والإيديولوجية في مخابر الفكر اليميني المتطرف الذي يعتبر برنارد لويس أحد رموزه، بالنظر للارتباط العضوي والإيديولوجي بين المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة العربية والشرق الأوسط بصفة عامة. اعتمدت الإمبريالية الأمريكية على تكتيك “الفوضى الخلاقة” كآلية للسيطرة على مناطق النفوذ ذات الأهمية الإستراتيجية الاقتصادية والسياسية بالنسبة لها وكبديل عن التدخل العسكري المباشر الذي يبقى قابلا للاستعمال في حالات الضرورة القصوى تجنبا للخسائر البشرية والمالية التي أصبحت تشكل ضغطا على الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ هزيمة فيتنام.
النظام الرسمي العربي العميل في طليعة أدوات “الفوضى الخلاقة”
يأتي في المقام الأول النظام الرسمي العربي بوصفه المسؤول الأول عن هشاشة الجبهة الداخلية العربية وقابليتها للاختراق، فالأنظمة الرجعية العميلة التي سخّرت كافة الإمكانيات والموارد لتحصين نفسها وحراسة مصالحها عوض توجيهها لبناء الدولة الديموقراطية الشعبية العادلة، وأبرز مثال على ذلك الأنظمة العربية الاستبدادية المعارضة للإمبريالية التي لم تشفع لها مواقفها المعلنة من المصالح الامبريالية ومن التطبيع مع الكيان الصهيوني حين أصبحت عرضة للاستهداف المباشر (العراق، ليبيا، سوريا) والانهيار رغم ما تحيط به نفسها من شعارات رنّانة، سرعان ما تتهاوى عند أول تحدّي جدي لتقف معزولة عن شعبها في مواجهة مصيرها المحتوم، وحتى الأنظمة التي تفتقر لهذه الموارد فإنها اعتمدت على الدعم الخارجي وحوّلت نفسها إلى مجرد قائم بأعمال الإمبريالية في بلدانها، أمّا الأنظمة الملكية الرجعية المطلقة فإنّ وجودها ارتبط منذ نشأتها بمظلة الحماية الإمبريالية. لم تكن الدولة العربية الحديثة منذ نشأتها في خدمة شعبها بقدر ما كانت دولة في خدمة العائلة والقبيلة والعشيرة وفي أفضل الحالات دولة طبقية في خدمة طبقة الكمبرادور. هذه القطيعة بين الدولة وأغلبية الشعب هي التي فتحت أبواب الوطن العربي على مصراعيها أمام التدخلات الخارجية ونهب خيراته ومقدراته وانتهاك سيادته وكرامته الوطنية جاعلة من النظام الرسمي العربي أوهن من بيت العنكبوت.
ومن أبرز ارتهان النظام الرسمي العربي للإمبريالية الأمريكية حجم المساعدات التي تتلقاها هذه الأنظمة العميلة، وفيما يلي قائمة ستّ دول عربية منضوية في الجامعة العربية الأكثر استفادة من المساعدات المالية من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية خلال الـ15 سنة الفارطة.
العراق: يأتي العراق في صدارة الدول العربية التي تتلقى معونات أمريكية، فقد حصل على 5.28 مليار دولار، 89% منها للمجال العسكري. وفي التفاصيل، تلقّى العراق 4.8 مليار دولار في الدعم الأمني والعسكري و369 مليون دولار للمساعدات الإنسانية الإغاثية، منها 86 مليون دولار للمساعدات الغذائية العاجلة، بينما حصلت النفقات الإدارية على دعم 10 ملايين دولار. ونشير إلى أنّ الدعم الأمريكي للعراق عام 2001، عندما كان صدام حسين لا يزال في الحكم، لم يتجاوز 181 ألف دولار، ثم قفز عام 2006، ثلاث سنوات بعد دخول القوات الأمريكية للعراق، إلى 9.7 مليار دولار، في أعلى نسبة على الإطلاق بين كل الدول العربية خلال السنوات الماضية.
مصر: حصلت مصر على 1.23 ملياراً، 89% منها في المجال العسكري و11% المتبقية اتجهت إلى المجال التنموي. ووفق التفاصيل، فحوالي 1.1 ملياراً خُصّصت للدعم العسكري والأمني، فيما لم تتجاوز المساعدات الخاصة بالتعليم الـ37 مليون دولار والإنسانية 26 مليون دولار، بينما بلغ الدعم المخصص للنموّ الاقتصادي 45 مليون دولار. حصلت مصر عام 2002 على 2.3 مليار دولار في أكبر رقم خلال السنوات الماضية، بينما شكّل عام 2014 الأقل من ناحية الدعم الأمريكي لمصر؛ إذ لم يتجاوز 180 مليون دولار.
الأردن: حصل الأردن على 1.21 مليار دولار، مالت نسبياً لصالح الدعم التنموي على الدعم العسكري. ومن أهمّ ما تلقّاه الأردن خلال هذه السنة، 510 مليون دولار لما هو أمني وعسكري و213 مليون دولار الموازنة العامة و188 مليوناً للخدمات الإنسانية الإغاثية و82 مليون دولار للتعليم و60 مليوناً للمجال الصحي. ويبقى الأردن عموماً من الدول العربية الأكثر تلقّياً للدعم المالي الأمريكي خلال السنوات الماضية. وقد وصل الرقم عام 2003 إلى 1.7 مليار دولار، بينما شكّل عام 2001 الأقل بـ 259 ألف دولار.
سوريا: حصلت سوريا على 916,4 مليون دولار. ورغم أن واشنطن قدمت 94 مليون دولار في المجال الأمني، إلّا أنها قالت إن كل دعمها لسوريا كان مخصصاً للمجالات التنموية. وتُقدّر المساعدات الإنسانية الإغاثية بـ 471 مليون دولار، و320 مليون دولار للمعونات الغذائية العاجلة، و20 مليون دولار لبرامج غوثية متعددة. بينما كان نصيب “المشاركة الديمقراطية والمجتمع المدني” 1.8 مليوناً. وارتفعت المعونات الأمريكية في اتجاه سوريا منذ بدء الحرب بهذا البلد عام 2011، فبعدما كانت لا تتجاوز عام 2010 حوالي 22 مليوناً، أضحت في ارتفاع مستمر، إذ يتوقع أن يكون عام 2017 أكبر من سابقيه في تلقي الدعم الأمريكي.
السلطة الفلسطينية: تلقت الضفة الغربية وقطاع غزة 416.7 مليون دولار، موجّهة بالكامل للدعم التنموي رغم وجود 18 مليوناً للدعم الأمني قالت واشنطن إنه مخصص لبناء السلم المدني. 133 مليون خُصصت للحاجيات الإغاثية العاجلة و86 مليوناً للخدمات الاجتماعية و11 مليوناً للحكومة والمجتمع المدني. وكان الدعم الأمريكي للضفة والقطاع متفاوتاً خلال السنوات الأخيرة، إذ وصل عام 2013 إلى مليار دولار، بينما سجل 2006 أقل دعم، إذ لم يتجاوز 85 مليوناً.
لبنان: تلقّى لبنان 416,5 مليون دولار، 81% منها في المجال التنموي. وحصل لبنان تحديداً على 249 مليون قيمةً للخدمات الإنسانية الإغاثية و75 مليوناً للإصلاحات الأمنية و12 مليوناً لمكافحة المخدرات و9.2 مليوناً للحكومة والمجتمع المدني في قطاعات كالمشاركة الديمقراطية والتنمية القانونية. تلقّى لبنان في عام 2014 أكبر مبلغ مادي من الولايات المتحدة بقيمة 508 مليوناً، بينما يعدّ 2012 الأقل بـ 16 مليوناً.
وتأتي تونس في المرتبة العاشرة من جملة عشرين دولة عربية تتلقى مساعدات مالية أمريكية حيث حصلت تونس على 117.4 مليون دولار، 79% منها توجّهت للدعم العسكري والمتبقّي للمجال التنموي. حصل الدعم الأمني تحديداً على 69 مليوناً وقطاع الحوكمة والمجتمع المدني على 10 ملايين كما خُصّصت 25 مليوناً لدعم قطاع الطاقة و5.9 مليوناً للنمو الاقتصادي و3.7 مليوناً للتعليم.
أمّا في منطقة الخليج العربي فتعتبر البحرين الدولة الخليجية الأكثر تلقّياً للمساعدات الأمريكية في عام 2016، بحوالي 6.5 مليوناً. 91% منها للمجال العسكري. وقد بلغت قيمة الدعم الأمني والعسكري 5.4 مليوناً، بينما خُصصت 806 ألفاً لمكافحة المخدرات و351 ألفاً للحكومة والمجتمع المدني.
وأمام اهتراء النظام الرسمي العربي وفشله في تمرير المشاريع الامبريالية بالمنطقة رغم مليارات الدولارات التي تضخّ له سنويا ومع صعود دونالد ترامب لسدّة الرئاسة الأمريكية مؤخرا يبدو أنّ الإدارة الأمريكية الجديدة بصدد مراجعة سياسة المساعدات المالية الخارجية للأنظمة الموالية لها، حيث أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية قرارا بوقف جميع المساعدات الخارجية الحالية تقريباً وإيقاف المساعدات الجديدة، وفقاً لمذكرة داخلية أرسلت إلى المسؤولين والسفارات الأمريكية في الخارج. ويأتي هذا القرار المسرّب في أعقاب الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بوقف مؤقت لمدة 90 يوماً، للمساعدات الإنمائية الخارجية في انتظار مراجعة الكفاءة والاتساق مع سياسته الخارجية ويستثنى من ذلك المساعدات الغذائية الطارئة والتمويل العسكري لإسرائيل ومصر.
إنّ فقدان النظام الرسمي العربي لغطاء الحماية والدعم الإمبريالي ليس سوى إعلانا غير رسمي لانتهاء صلاحيته كنظام وظيفي مكلف بتنفيذ مخططات حماته وداعميه الإمبرياليين وفي تقديرنا فإنّ امتحان العمالة الأكبر الذي سقط فيه هذا النظام المتعفن هو فشله في تمرير مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني والقضاء على شرارة المقاومة في الوطن العربي.
أيّ مستقبل لقوى الفوضى الخلاقة في الوطن العربي؟ (الجزء الثاني)