بقلم طيبة سعد عبد الكريم
إن قانون الأحوال الشخصية عند صدوره عام 1959 لم يكن وليد هذا التاريخ، بل هو امتداد لمحاولات جادة بدأت بتشكيل لجنة إعداد مدونة القانون عام 1945م من خلال تشكيل لجان متخصصة تضمّ بين أعضائها رجال الدين من الفقهاء والعلماء من المذهبين الرئيسيين في العراق المذهب الجعفري والمذهب الحنفي، وقضاة من محكمة التمييز وسياسيين معروفين.
وبما أنّ القوى السياسية التي طالبت بتعديل القانون بناءً على المادة (41) من الدستور العراقي والتي جاء فيها (العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم، أو مذاهبهم، أو معتقداتهم، أو اختياراتهم وينظم ذلك بقانون)، فإن العمل بموجب هذا النص الدستوري قائم وكل شخص حر باختيار المذهب الذي ينظم عقد زواجه والاثار المترتبة عليه وسنوضح ذلك بالتفصيل:
أولاً: إن القانون لم يكن في جميع أحكامه عند صدوره يخالف الشريعة الإسلامية، وإنما انحصر الخلاف في المادة (13) من القانون عند صدوره بأن الزواج بثانية دون إذن القاضي يعتبر من أسباب التحريم المؤقتة، والمادة (64) من القانون عند صدوره، حيث اعتمد في حينه توزيع التركة في الميراث وفق أحكام الانتقال في حق التصرف الواردة في المواد (1187-1199) من القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 المعدل والتي ساوت بين الذكر والانثى في الميراث، ثم صدر تعديل بتاريخ 28/3/1963 أُلغى بموجبه المادتين الخلافيتين المشار إليهما أعلاه واستبدلت بأحكام تتفق والغالب مع الفقه الإسلامي.
ثانياً: مجمل أحكام القانون تحيل القاضي إلى فقه الشريعة الإسلامية الذي استمدّ منها أغلب الأحكام القانونية وفق ما ورد في المادة (1) من القانون التي جاء فيها (1. تسرى النصوص التشريعية في هذا القانون على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. 2. إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه فيحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الأكثر ملائمة لنصوص هذا القانون. 3. تسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرّها القضاء والفقه الاسلامي في العراق وفي البلاد الاسلامية الأخرى التي تتقارب قوانينها من القوانين العراقية).
ثالثاً: في مجال المواريث فإن المادة (90) من قانون الأحوال الشخصية قد ألزمت القاضي بالعودة إلى الأحكام الشرعية وفق مذهب المتوفى والتي جاء فيها (مع مراعاة ما تقدّم يجري توزيع الاستحقاق والأنصبة على الوارثين بالقرابة وفق الأحكام الشرعية التي كانت مرعية قبل تشريع قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959 كما تتبع فيما بقي من أحكام المواريث).
لماذا هذا التعديل؟…
إن تعديل قانون الأحوال الشخصية يستخدم لغة مشفرة تستهدف المرأة بشكل خاص وتسلُب حقوقها، إذ تحدد بشكل خاص المادة “2” والمادة “10” الفقرة 5 من هذا القانون، التي تقوي سلطة الرجل على المرأة والطفل.
حيث ينص تعديل المادة الثانية على منح رجال الدين سلطة الحاكم الشرعي في عقد القران، ما يتيح لهم عقد زواج الفتيات بسن صغيرة قد تصل إلى 9 سنوات أو حتى أقل، بناءً على مفهوم البلوغ الديني، سواء كان الزواج دائماً أم منقطعاً (مؤقت).
كما أن المادة 10 من القانون المعمول به قبل التعديل تجرّم الزواج خارج المحكمة وزواج القاصرات، وتفرض عقوبات على الأب الذي يزوّج ابنته دون السن القانونية وهو 18 عاماً، وعلى الرجل الذي يتزوج فتاة قاصر، والتعديل الذي تمّ طرحه يلغي هذه المادة وينسفها، وهو ما قد يفتح الباب أمام تداعيات خطيرة.
ومن هذه التداعيات انتشار الأمراض المنقولة جنسياً، بالإضافة إلى تكريس ظاهرة تزويج القاصرات، وهو ما سيؤدي إلى تفشي مشاكل مجتمعية وأمراض نفسية، كما أن هذا التعديل قد يسبّب ارتفاعاً في نسب الطلاق، ويرجع بفقدان الأمان الاجتماعي للأطفال، الذين قد ينتهون إلى التشرد بعد انفصال أمهاتهم.
كما يسمح هذا التعديل للرجل بتعدد الزوجات خارج المحكمة وبدون موافقة الزوجة الأولى أو الثانية، ممّا يشكل هدراً لكرامة وحقوق المرأة بشكل عام، ويزيد من تعميق التفاوت والتمييز في المجتمع.
أمّا مسألة حضانة الأم، فإن التعديل يترك الحضانة للمدونة الفقهية الخاصة بالمذهب الجعفري، إذ يقوم هذا الفقه على أن تكون حضانة الأم للطفل سنتين فقط، وبعدها تسلب الحضانة من الأم وتذهب إلى الأب، وهو ما تعتبره “سرقة حق الطفل في أن يحظى بحنان الأم”، وقال بعض الفقهاء إنه من المستحب أن يبقى الطفل مع أمه في السبع سنوات الأولى، ثم تنتقل الحضانة إلى الأب.
أمّا بالنسبة للإرث، فتعديله وفق هذه المدونة الفقهية يحرم الزوجة من ميراث زوجها في أصل العقار ويكون ميراثها من الأموال المنقولة فقط، وهذا يشكل مخالفة شرعية ودستورية، كما أنه سيسبب مشاكل اجتماعية خطيرة، ومنها تفكك الأسر في المستقبل، سيّما أنّ الفتيات القاصرات لا يكنّ قادرات على بناء أسر صالحة، ويؤدي التعديل إلى وجود غطاء قانوني للاتجار بالبشر عبر بيع الآباء لبناتهم تحت مسمى الزواج، إذ أنّ بعض الآباء غير الأسوياء قد يستغلون ذلك لمصلحة شخصية، كما أنّ حرمان الزوجة من الميراث قد ينتج مشاكل أسرية مستعصية بين الأبناء والأمهات، ما قد ينتهي بالأمهات إلى الإقامة في دور العجزة.
إضافة إلى أنّ سلب حضانة الأم سيؤدي إلى نتائج كارثية على الأطفال، ممّا قد يعرّضهم للمعاناة النفسية والسلوكية نتيجة انفصالهم عن أمهاتهم في سن مبكرة، هذا التغيير قد يساهم في خلق أجيال قد تكون عرضة للانحرافات السلوكية أو حتى الجريمة.
كما أنّ منح رجل الدين سلطة الزواج والطلاق يتسبب بتوسيع نفوذ رجال الدين على حساب المؤسسات القانونية ويسبب إرباكًا للدولة، هذا سيؤثر على تطبيق المادة 14 من الدستور العراقي التي تضمن المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.
إنّ هذا التعديل جاء كمساومة سياسية، حيث صوتت الأحزاب الشيعية على قانون العفو العام وإعادة العقارات للأكراد مقابل تمرير تعديل قانون الأحوال الشخصية، وإنّ هذا التعديل صفقة ساذجة، حيث قدّم نحو 11 نائباً من الإطار التنسيقي طعونًا للمحكمة الاتحادية، بعد أن أدركوا أنّ مكاسبهم من التعديل أقل بكثير ممّا حصلت عليه الأحزاب الأخرى، وأخيرا إنّ عواقب هذا التعديل سوف تأثر سلبا على:
– العاقبة الدولية:
يعدّ التعديل المقترح انتهاكاً لجملة من المواثيق والمعاهدات الدولية التي سبق أن صادق عليها العراق. وإن إقرار التعديل يعني تنصل العراق من التزاماته حيال المجتمع الدولي، وما يعنيه ذلك من انقلاب على الشرعة الدولية، ومن طعن في شرعية الدولة العراقية نفسها.
– العاقبة النفسية-الاجتماعية
إنّ إنفاذ التعديل المقترح يعني أنّ صدماتٍ نفسية وأضراراً اجتماعية هائلة ستلحق بأجيال من الأطفال والنساء -من المذهبين- ممّن سيجري استرقاقهم وتهميشهم وهدر حقوقهم المدنية وكرامتهم الإنسانية، بسبب الزواج المبكر والانتهاك الجنسي المشرعن، أو بسبب ما سيعانونه من قهر وإذلال في حال تطبيق فتاوى ذكورية في قضايا الطلاق والحضانة والنفقة وغيرها.
كما سيمارس التعديل المقترح إخلالاً قصدياً بتماسك الهوية الوطنية بوصفها شرطاً جوهرياً للسلم الاجتماعي والنهضة الحضارية، إذ تدفع الفرد لتأسيس صورة ذهنية طائفية مغلقة لمذهبه أو دينه بمعزل عن مشاعر المواطنة والانتماء نحو بقية العراقيين. وهذا يعني -عملياً- الارتداد من فكرة الدولة الوطنية الراعية لتساوي الحقوق بين المواطنين، إلى فكرة الدولة الطائفية الممزقة بفتاوى مذهبية متصارعة يتحوّل المواطن بموجبها إلى سلعة فقهية غير متساوية القيمة في سوق السلطة الدينية البشرية المتعكزة -زوراً- على مسميات إلهية.