الرئيسية / صوت العالم / أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل

أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل

بقلم جيلاني الهمامي

هذا هو الانطباع الذي يبقى لدى كل من يتابع التطورات الأخيرة وخاصة تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وردود قادة بلدان أوروبا عليها. وبعلاقة بهذا الانطباع تطرح أسئلة كثيرة حول ما إذا كان “التصدع” الذي يشهده التكتل الامبريالي الغربي هو تصدع جدي ولا رجعة فيه أم أنه مجرد “سوء تفاهم” ظرفي. ولعل أكثر هذه الأسئلة إثارة للحيرة والانشغال هو هل فعلا بات استخدام الأسلحة النووية كما ألمح إلى ذلك الرئيس الفرنسي أمرا واردا في الاستراتيجيات الدفاعية الجديدة أم أن المسألة لا تعدو ان تكون سوى تهديدات تكتيكية لإعادة ترتيب العلاقات بين أمريكا وأوروبا؟

هل تخلت أمريكا عن القارة العجوز ولماذا؟

وكمقدمة لكل الأسئلة التي تطرحها التطورات الأخيرة سؤال مفتاح وهو هل قررت أمريكا فعلا التخلي عن القارة العجوز؟ لأن ما يستشف من سلسلة التصريحات النارية للرئيس الأمريكي بخصوص أوروبا هو ذهاب الولايات المتحدة الأمريكية باتجاه صرف اهتمامها عن القارة الأوروبية لصالح أولويات جيو-استراتيجية جديدة. وحتى ردود الفعل الأوروبية رغم كل التحفظات التي تميزت بها ومنها تصريحات الرئيس الفرنسي التي كانت أكثر جرأة فهي تؤدي أيضا إلى نفس المعنى تقريبا. والواضح أن الأمر ليس مجرد خطاب شعبوي بين زعيمين شعبويين ترامب وماكرون، فالرئيس الأمريكي يعتبر أن بفضل ضغوطه هو شخصيا أجبر قادة الغالبية العظمى من بلدان أوروبا (23 بلدا من أصل 32 عضو في الناتو) على تخصيص 2 % من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري. الأمر الذي اعتبره مع ذلك غير كافٍ وطالب بالترفيع في هذه النسبة إلى 5 % هذه المرة مهددا بالانسحاب من الناتو وفي أقل الأحوال بعدم التقيد بأحكام البند الخامس من اتفاقية الحلف في إطار مواصلة الضغوط على البلدان الأوروبية الأعضاء من أجل “إعادة النظر في استراتيجيتهم الدفاعية”. ودائما في إطار التهديد قال “إذا لم يدفعوا فلن أدافع عنهم” مشككا في جدوى التحالف بين بلاده وأوروبا قائلا “إن المشكل الأكبر بالنسبة إلي مع الناتو هو لو فرضنا وقعت الولايات المتحدة في إشكال ودعت فرنسا أو بلدان أخرى لا فائدة في ذكرها وقالت لهم إني في مشكل فهل تعتقدون أنهم سيهبون لمساعدتنا؟ لست واثقا من ذلك”. لذلك نبّه ترامب أن بلاده لن تتدخل لنصرة أي بلد أوروبي في حالة ما إذا تعرض إلى هجوم من أي جهة كانت. بل أكثر من ذلك عبر عن استعداد بلاده للانسحاب من حلف الناتو كما سبق أن قرر بخصوص عديد الهيئات والمؤسسات الدولية الأخرى (منظمة الصحة العالمي، اتفاقية باريس حول المناخ الخ…). والحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تفكر في الأمر منذ مدة ذلك أن الرئيس الأسبق باراك أوباما تحدث منذ سنة 2011 عن أهمية منطقة المحيط الهادي الهندي لمستقبل المصالح الأمريكية وطلب صراحة من الأوروبيين البدء بالتفكير في التعويل على قواهم للدفاع عن أنفسهم وكشف في سنة 2014 عن النسبة الكبيرة من ميزانية الدفاع التي تخصصها بلاده للمصاريف العسكرية الأمريكية في أوروبا وللدفاع عن أوروبا ودعا وقتها إلى ضرورة وضع حد لهذه الوضعية. وكان الرئيس الحالي دونالد ترامب وعد ضمن حملته الرئاسية سنة 2016 بخفض حجم القوات الأمريكية في أوروبا وهدد في ماي 2020، أي في رئاسته الأولى، بسحب القوات الأمريكية من أوروبا. وهو ما يحمل الأوروبيون كل يوم أكثر على الاعتقاد في أن التحالف الغربي مقدم على تصدع حقيقي وأنهم مطالبون بالإسراع في إعادة النظر في استراتيجيتهم الدفاعية في ضوء هذه التحولات وكذلك في ضوء التغيرات الجارية على مشهد القوى الجديد في العالم. مؤشرات أخرى كثيرة تؤيد هذه الحقائق منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض أهمها الموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا ومنها أيضا المعاملة المهينة للرئيس الأوكراني على الهواء أمام وسائل الإعلام والتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة جنبا إلى جنب مع روسيا ضد مشروع قرار أوكراني-أوروبي. وهي سابقة لم تحصل منذ عقود من الزمن. وفوق كل ذلك الضغوط التي تمارسها إدارة ترامب على أوكرانيا للقبول بالتنازل عن نصف مدخراتها من المعادن الثمينة لفائدة أمريكا من جهة وللقبول بالتنازلات المطلوب من أوكرانيا تقديمها لروسيا والتي يجري الآن صياغتها في محادثات السعودية التمهيدية للقمة المرتقبة بين ترامب وبوتين والتي ستضع خطة وقف إطلاق النار ووقف الحرب الأوكرانية الروسية.
وفي ضوء كل هذه الاعتبارات وغيرها يعلق المفكر الأميركي ستيفن والت Stephen M Walt الجامعي الأمريكي ممثل مدرسة “الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية”، على ما يجري الآن بالقول إن “معظم الزعماء الأوروبيين، وخاصة أولئك الذين حضروا مؤتمر ميونيخ للأمن في نسخته الـ61 يرون أنه لأول مرة منذ عام 1949 (عام تأسيس حلف الأطلسي)، أصبحت هناك أسباب قوية للاعتقاد بأن ترامب ليس فقط غير مبال بحلف شمال الأطلسي ويتجاهل زعماء أوروبا، بل إنه معادٍ لمعظم الدول الأوروبية، وبدلا من التفكير في دول أوروبا باعتبارها أهم شركاء أميركا، يبدو أن ترامب قد غير موقفه ويرى في روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين رهانًا أفضل في الأمد البعيد”.
وإذا كان التفكير الأمريكي في مراجعة التزامات القوة الأعظم حيال الحلفاء الأوروبيين ليس بجديد فإنه أيضا يستند إلى اعتبارات كثيرة ومتنوعة فالأمر لا يتعلق حصرا بالجوانب الأمنية والعسكرية. إن الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب – في السابق كما في الوقت الحالي – غير مرتاحة للوزن الاقتصادي الذي يمثله الاتحاد الأوروبي والذي بات يضاهي حجم الاقتصاد الأمريكي (17 ترليون دولار حجم الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي مقابل 20 تريليون للجانب الأمريكي). وفي هذا يرى ترامب بعين الغضب حالة المبادلات التجارية بين الجانبين والتي تسجل فيها أوروبا فائضا ضخما بالنظر لتفوق حجم صادراتها إلى أمريكا.
وللتذكير فقد كان ترامب في ولايته الأولى فرض رسوما قمرقية على المواد الفلاحية الأوروبية وعلى منتوجات الحديد والصلب. وها هو اليوم يقرر مرة أخرى فرض رسوم قمرقية في مستوى 25 % على مواد الحديد والصلب والألومنيوم. ومما يثير عدم رضى ترامب أيضا التدابير الأوروبية الموضوعة في وجه الشركات الأميركية في القطاع الرقمي والتشريعات الأوروبية بشأن الخدمات والأسواق الرقمية والبيانات والذكاء الاصطناعي والتي هي في نظر إدارة ترامب بمثابة حواجز غير جمركية تضيق على صادرات أمريكا في هذا القطاع. علما وأنه إذا كانت أوروبا تتفوق في تصدير السيارات والمواد المصنعة والمعملية فإن الولايات المتحدة تتفوق بالمقابل في كل ما هو خدمات وتكنولوجيا الرقميات. ولكن مقارنة عائدات الصادرات من هذا الجانب وذاك ترجح الكفة لصالح أوروبا بشكل واضح.
هذا ما يعني أنّ الولايات المتحدة الأمريكية التي دأبت على التعاطي مع أوروبا على كونها “مستعمرة” تابعة لها واعتمدتها منذ ما بعد انتهاء مخطط مارشال لإعادة الإعمار فضاء حيويا للاستثمار وسوقا للترويج لم تعد مستعدة للاكتفاء بذلك وتريد اليوم في ضوء تغيّر ملامح السوق العالمية وتبدّل خريطة الصراعات الاقتصادية والتجارية (مع الصين خاصة) أن تتمتع بامتيازات أكبر في علاقتها مع أوروبا.
في كلمة يمكن القول إن الامبريالية الأمريكية بصدد إعادة صياغة استراتيجيتها الهيمنية على النطاق العالمي والتي ضمنها ستتخلى عن دورها الأبوي الذي اتبعته طوال الحرب الباردة وحتى في فترة القطب الواحد في علاقة بالقارة العجوز. في مقابل ذلك لم تتأخر أوروبا كثيرا في الرد بشكل جماعي في إطار “الاتحاد الأوروبي” أو بشكل منفرد في بعض الحالات (فرنسا، ألمانيا…) وفق الحسابات الخاصة للقوى السياسية والاقتصادية المؤثرة صلب المجموعة الأوروبية.
(يتبع)

إلى الأعلى
×