ورد بجريدة “صوت الشّعب” في عددها 160:
“أحداث 26 جانفي 1978: الأسباب والمجريات”
يوم 26 من هذا الشهر تكون قد مرّت سبع وثلاثون سنة كاملة على أحداث الخميس الأسود، أحداث يوم الخميس 26 جانفي 1978 الدامية التي هزّت البلاد وأودت بحياة المئات من التونسيين وخلّفت الآلاف من الجرحى إثر الاصطدامات العنيفة بين النقابيين وجماهير العمّال المتظاهرين من جهة وقوّات البوليس والجيش وميليشيات الحزب الحاكم من جهة أخرى التي كان يقودها في ذلك الوقت الديكتاتور السابق زين العابدين بن علي.
ففي ذلك اليوم عمّت المسيرات والمظاهرات العمالية والشعبية شوارع وضواحي تونس العاصمة وكبريات المدن التونسية ورافقتها مصادمات وأعمال عنف وحرق وتكسير كانت مجموعات ميليشيات “الحزب الاشتراكي الدستوري” الحاكم (“التجمع” المنحل) أول من أشعل فتيلها لجر المتظاهرين والغاضبين لفوضى العنف [1] قصد إقامة الدليل وإثبات التهمة على أن الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل دفاعا عن استقلاليته وعن مصالح الشغالين ليس إضرابا مشروعا بل هو إضراب “تقوده خلفيات سياسية مشبوهة” و”عصيان مدني يهدد الأمن والنظام العام..”. [2]
وكانت النتيجة عددا كبيرا من القتلى والجرحى. وقد اعترفت الحكومة آنذاك (حكومة الهادي نويرة) بسقوط 52 قتيلا و365 جريحا في ما تحدثت تقارير أخرى مستقلة عن مقتل ما يزيد عن 400 شخص وجرح أكثر من ألف.
وضمن النتيجة أيضا عدد ضخم من المعتقلين، من النقابيين، مسؤولين مركزيين وجهويين ومن مختلف القطاعات ونشطاء، ومن العمال والمتظاهرين وممن ألصقت بهم تهم التكسير والتعدي على أملاك الغير وما إلى ذلك من التهم المعروفة. في مثل هذا الجو تم تدبير الانقلاب على الاتحاد العام التونسي للشغل وتنصيب قيادة موالية للحكومة (جماعة المنصبين بقيادة التيجاني عبيد) ونسجت خيوط المحاكمة الشهيرة ضد القيادة النقابية الشرعية.
وفوق كل ذلك فقد شهد يوم 26 جانفي 78 دخول الجيش لأول مرة في تاريخ تونس الحديث، على ركح الأحداث السياسية وكطرف لفض النزاع المدني بين الحكومة والمنظمة النقابية.
فما هي أسباب هذه الأحداث وكيف تطورت الأوضاع قبل أن يحصل الانفجار؟
1 – الأسباب البعيدة:
دخل النظام الرأسمالي العالمي في أزمة حادة ابتداء من سنة 1973 انعكست بصورة مضاعفة على بلادنا وبدأ نسق النمو يتراجع والتوازنات العامة تختل ونسب التضخم والتداين والبطالة ترتفع وتدهورت المقدرة الشرائية وتفاقم الفقر واتسعت الفوارق بين الطبقات والجهات واصبح سوء التصرف في المال العام ظاهرة مثيرة لاتذمر. لقد فشلت خطة التنمية الليبرالية المتبعة منذ مجيء حكومة نويرة ولم يتحقق مشروع “المجتمع الوسط” و”العدالة الاجتماعية”.
وقد شهدت تلك الفترة، على الصعيد السياسي، هيمنة نمط الحكم الفردي ذي الطابع الفاشستي الرافض لأبسط مظاهر الديمقراطية والحريات وتمت إزاحة ممثلي التوجه الليبرالي (أحمد المستيري) وبُويع بورقيبة رئيسا مدى الحياة وانتصبت المحاكمات ضد تيارات اليسار الجديد سنة 1974 (مجموعات آفاق/العامل التونسي…) وحركة الوحدة الشعبية وجرى الانقلاب على الاتحاد العام لطلبة تونس وتم قمع حركة الشباب التلمذي والطالبي بشدة (1972، 1975، 1976…).
لقد اجتمعت كل الشروط لكي ينشب ذلك الخلاف بين المنظمة النقابية والحكومة ويتحول من مجرد نزاع مطلبي في الظاهر إلى أزمة سياسية متعددة الأوجه والأبعاد كان يوم 26 جانفي 1978 ميقات انفجارها.
2 – الأسباب المباشرة:
عندما عقد الاتحاد العام التونسي للشغل مؤتمره الرابع عشر شهر مارس 1977 لم يكن هناك ما يبعث على الاعتقاد ولا حتى على سبيل الاحتمال أن توترات حادة ستطرأ على علاقة الاتحاد والحكومة. فقد أكد الزعيم النقابي الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد وعضو الديوان السياسي للحزب الحاكم، أثناء أشغال المؤتمر الذي التأم تحت عنوان “حرية وتقدم” موالاته لبورقيبة قائلا: أنه “إذا كان البعض يتبنى الاشتراكية ويوالي الماركسية اللينينية فإن الاتحاد والنقابيين في تونس لا يوالون إلا الزعيم بورقيبة ولا يتبعون غير منهج البورقيبية، المنهج الأمثل والأنسب لتونس”. وكان ذلك علامة على أن الأمور كانت تسير في تمام الانسجام والتفاهم في ما كان يسمى آنذاك بـ”السياسة التعاقدية” كإطار “للتفاوض” و”لفض النزاعات الشغلية” و”معالجة مسائل الأجور ومطالب العمال” و”تحقيق السلم الاجتماعية”. لكن ذلك لم يمنع أن تشهد الأشهر التسعة الموالية نسقا متصاعدا من الخلافات والتوتر
لقد كانت الزيارة التي أداها الوفد النقابي بقيادة الحبيب عاشور إلى ليبيا، ما بين 14 و17 ماي 1977، نقطة انطلاق الازمة. لقد أثارت هذه الزيارة كثيرا من القلق لدى الوزير الأول الهادي نويرة وبدأ الخطاب النقابي يأخذ منحى متجذرا حيال الصعوبات الاجتماعية ومظاهر سوء التصرف وخاصة الزيادات الكبيرة التي شهدتها الأسعار في ربيع وصائفة 1977. وتواترت اجتماعات الهياكل القيادية للمنظمة النقابية لتعلن وبصراحة متزايدة الوضوح رفض سياسة الحكومة والاستعداد لمواجهتها وشكلت الهيئة الإدارية الوطنية المنعقدة بتاريخ 15 سبتمبر 1977 والتي تمحورت أشغالها حول “الحملة التي تستهدف الاتحاد، وارتفاع الأسعار والاحتكار والمضاربات والثراء الفاحش، ووضع علاقات الاتحاد بالحزب ومستقبلها…” منعرجا حاسما وبات الوضع ينذر بانفجار وشيك. وتفاقمت الازمة بفعل الأحكام الصادرة في حق بعض النقابيين والمشاركين في مظاهرة كانت جدّت بصفاقس يوم 9 سبتمبر 1977 وخاصة على إثر أحداث قصر هلال ومنزل بورقيبة موفى شهر أكتوبر التي جرت خلالها مواجهات عنيفة بين أعوان البوليس والجيش من جهة والعمال وأهالي هاتين المدينتين من جهة ثانية.
وأمام تصاعد نسق الأحداث اتخذت دورية اجتماعات الهيئات القيادية للاتحاد، المكتب التنفيذي والهيئة الإدارية الوطنية وندوات الإطارات القطاعية والجهوية نسقا متصاعدا وبدأت دائرة اهتماماتها تتسع لتشمل قضايا لم تكن تطرح من قبل بمثل تلك الجرأة والحدّة مثل مراجعة علاقة الاتحاد بالحزب الحاكم ومراجعة نظام الأجور ومسألة توزيع ثروات البلاد وثمرة مجهود العمل وقضايا الحريات وحرية الصحافة على وجه الخصوص. بل أكثر من ذلك صار هنالك ضغط كبير من أجل اتخاذ موقف عملي تجاه التحرشات التي يتعرض لها الاتحاد والنقابيون. وفي خط مواز لذلك تكثفت حركة الإضرابات لتشمل جميع القطاعات والجهات تقريبا. وباكتشاف وجود نية أو مخطط لاغتيال الأمين العام الحبيب عاشور في مستهل شهر نوفمبر 1977 من قبل بعض غلاة حزب الدستور بالساحل ارتسم خط القطيعة النهائي بين الحكومة والاتحاد وبات من المألوف الحديث في الأوساط النقابية عن “التيار الفاشستي” و”عصابة اليد الحمراء الجديدة” و”نزعات الإرهاب والتصفية الجسدية”. وبالمقابل جندت الحكومة كل ما في حوزتها من وسائل إعدادا للمواجهة المحتومة.
وفي هذا الإطار دعت الهيئة الإدارية الوطنية أعضاء القيادة النقابية إلى الانسلاخ عن الحزب الحاكم ودعت لانعقاد المجلس الوطني لاتخاذ قرار الإضراب العام الذي تم التمهيد له بإضرابات قطاعية كبيرة ناجحة (المناجم نوفمبر 1977، التعليم، الإضرابات الجهوية احتجاجا على نية اغتيال الأمين العام. لقد كانت الأزمة على درجة من العمق مست حتى أعلى “المجتمع”، أي خلقت شروخا وسط الفريق الحاكم الذي انقسم على نفسه بخصوص كيفية معالجة الأوضاع. ففي حين كان البعض بقيادة صقور الحزب الحاكم (الهادي نويرة وعبد الله فرحات ومحمد الصياح وعامر بن عائشة وغيرهم…) يرى أن تجاوز الأزمة لا يتم إلا “بالضرب على أيدي العابثين” و”الصائدين في الماء العكر الذين في قلوبهم مرض”، فإن البعض الآخر من ذات الفريق كان يرجح طريق الحوار والتفاعل مع المطالب النقابية وتهدئة الأجواء وتلافي تعريض النظام للهزات (الطاهر بلخوجة، عزوز الأصرم…).
وبما أن الغلبة كانت للفريق الأول فقد طغى على توجه الحكومة والحزب الحاكم تصور هذا الفريق مما أدى إلى إقالة وزير الداخلية الطاهر بلخوجة وجيء بدلا عنه بأحد المتحمسين لنهج التشدد (بصورة وقتية) وزير الدفاع عبد الله فرحات قبل أن يقع تعيين الضاوي حنابلية، كما جيء بأحد كولونالات الجيش، زين العابدين بن علي مديرا للأمن مكان عبد المجيد سلامة. اعتبر الاتحاد هذا القرار خطيرا ودليلا على الاتجاه نحو مزيد عسكرة الحياة المدنية تبعته تطورات كبيرة أهمها استقالة عدد من الوزراء احتجاجا على هذه الخطوة وانفتح المجال على مصراعيه لمرحلة جديدة، مرحلة الحسم العنيف: الإضراب العام ومواجهته بأقصى درجات العنف من طرف البوليس والجيش ومليشيات الحزب الحاكم.
الانقلاب والمحاكمة
وكانت الأيام التي سبقت الإضراب العام مشحونة هي الأخرى بمواجهات قطاعية وجهوية مثل الإضراب العام في قطاع الفلاحة والإضراب العام الجهوي بصفاقس يوم 25 جانفي 1978 احتجاجا على اعتقال الكاتب العام للاتحاد الجهوي عبد الرزاق غربال قبل يوم من ذلك. وبطبيعة الحال امتدت حملة الإعتقالات لتشمل يوم 26 جانفي والأيام الموالية له القيادة النقابية باستثناء خليفة عبيد الذي كان في مصحة للتداوي والتيجاني عبيد الذي انقلب على القيادة وقاد عملية التنصيب بعد أن أنكر، وتنكر، واستنكر قرار الإضراب العام.، وكذلك عددا هاما من أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية وكتابا عامين للاتحادات الجهوية والمحلية ومسؤولين من نقابات جهوية وأساسية ومناضلين نقابيين وعمال ناشطين وعددا كبيرا ممن ألقي عليهم القبض في الشارع أثناء المظاهرات والمواجهات التي شهدتها بعض دور الاتحاد.
لقد جرت الاعتقالات والمداهمات على امتداد أيام قبل الإضراب وخلاله وبعده وبطبيعة الحال أودع الجميع السجن قبل أن يمروا من مخافر وسراديب وزارة الداخلية ومحلات “أمن الدولة” حيث مورست عليهم شتى أشكال التعذيب. وانتصبت المحاكم لمقاضاة أكثر من ألفي مواطن وشملت هذه المحاكمات إلى جانب النقابيين أفراد عائلاتهم وعددا كبيرا ممن أوقفوا أثناء وبعد المظاهرات من شبان وطلبة وتلامذة وعمال وعاطلين.
وبرغم ما خلفته هذه الازمة من مآسي وأوجاع وضحايا فقد تحولت إلى منطلق لمعارك طبقية أخرى خاضها الشعب التونسي الى ان توصل في جانفي 2011 إلى الاطاحة بالديكتاتورية.
جيلاني الهمامي (نائب بمجلس نوّاب الشّعب عن الجبهة الشّعبيّة)