طُرح في المدة المنقضية موضوع خلنا أننا دفنّاه مع نظام المخلوع بن علي، هذا الموضوع يهمّ كيفية تسيير الشأن العام وإدارة شؤون الحكم من طرف الحكام. فإن اتجه لفيف هام من فقهاء العلوم السياسية الى أنّ النظام الديمقراطي المعاصر (أو المجتمع السياسي) يتكوّن من ضلعين أساسيّين: ضلع الحكم وضلع المعارضة (اضافة للمجتمع المدني)، فان تحديد مفهوم ومعنى المعارضة اختلف من مقاربة إلى أخرى.
وإن كان البعض يقرّ بكون المعارضة هي نوع من السلطة المضادة لها حق الاختلاف والتناقض والإعداد لافتكاك الحكم، فإنّ البعض الآخر اتّجه إلى الاستنقاص من مهام المعارضة وتحجيمها ضمن رؤية لوحدة النظام الذي اعتبرت المعارضة جزء منه، وهذا التوجّه رغم قناعه الديمقراطي الزائف، فإنه شاء أم أبى يجانب المنطق الديمقراطي ويلتحق بالمنطق الاستبدادي الدكتاتوري، فالحاكم لا يجب أن يختار معارضيه، وإن فعل فإنه يكفّ عن أن يكون ديمقراطيا.
إنّ المعارضة في النظام الديمقراطي هي مستقلة بطبعها ولا يمكن أصلا أن تكون على الشاكلة التي تريدها السلطة، فذلك يحرمها من اكتساب صفة المعارضة، حينها تتحوّل الى معاضدة أو معارضة شكلية ديكورية مثلما هو حال الانظمة اللاديمقراطية في العالم. وكما كان موجودا في بلادنا طيلة عقود الحكم الدكتاتوري، فحكم حزب الدستور لم يكتف بإقامة نظامه القمعي ووفّر له كل شروط الاستفراد بالقرار وكل مؤسسات البطش والتحكّم والقهر، ومن بين شروط هذا النظام لابد من أحزاب موالية تمثل واجهة تزيّن وجهه القبيح، لذلك خلق وصنع ” معارضته” مثلما يصنع أيّ جهاز من أجهزة حكمه، وكانت هذه “المعارضة” تأتمر بأوامره الى حدّ المهزلة ولعلّ الجميع يتذكّر “تيّاسته” في الانتخابات الشكلية التي ينظّمها كل خمس سنوات من ذلك أنّ عبد الرحمان التليلي “المرشح” للرئاسة دعا الناس في اجتماعات عمومية الى التصويت المكثف لبن علي(؟؟؟؟)، كما يتذكّر الجميع تدافع قادة هذه الاحزاب للدفاع عن وليّ نعمتهم بمناسبة أيّ حملة نقديّة يتعرّض إليها من قبل المنظمات الحقوقية بحكم انتهاكاته الجسيمة لحقوق الشعب التونسي بما فيها أيام الثورة، حين كان الشهداء يتساقطون كانت جوقة الخدم تدافع عنه باستماتة وهي في الحقيقة كانت تدافع عن نفسها ووجودها المرتبط أصلا بوجود النظام، لذلك حين خُلع بن علي، خُلع معه الاينوبلي وثابت وبولحية وبوشيحة والخماسي..، كما اختفى معه العشرات من رؤساء الجمعيات الصورية التي كانت مستنسخة لمغالطة الخارج بكون الحرية متوفّرة ومغالطة الداخل بإعلاء أصوات الولاء والتأييد، ومن ثمة الحكم على المعارضة الفعلية بالتهمّش وعلى المجتمع المدني الفعلي بالتقزّم. ولا غرابة في الامر فقد كتب “منظّر” الدكتاتورية البنعلينية الصادق شعبان أنّ الدولة تخلق المجتمع المدني. إنّ هذا المنطق في الحكم هو ميزة كل الانظمة الدكتاتورية القمعية.
ورغم المساحة الكبيرة من الحرية السياسية التي فرضها شعبنا بتضحياته وثورته، فانّ بعض المؤشرات بدأت في البروز بُعيد انتخابات اكتوبر 2014 وتربّع تحالف رجعي جديد على الحكم في بلادنا وذلك من خلال العمل الدؤوب الذي يقوم به التحالف الحاكم من أجل صنع معارضة على مقاسه. برز ذلك من خلال التآمر على الجبهة الشعبية كي لا تنوب رئيس مجلس نوّاب الشعب، أو تترأس لجنة المالية في ذات المجلس ودعم مجموعات لا رابط بينها سوى معارضة أغلبها للجبهة أكثر من معارضته للتحالف الحاكم الجديد الذي صوّت له بعض أعضاء هذه المجموعات لنيل الثقة. لقد بيّنت هذه الحادثة نوازع الحكام الجدد سليلي دكتاتورية ما قبل وما بعد 14 جانفي للربط مع الماضي المظلم للنظام السياسي التونسي، والهدف معلوم، فالحكم الجديد يريد “معارضة” طيّعة، منضبطة ومتّفقة معه في الخيارات الكبرى والإستراتيجية المتعلقة بالخيارات الاقتصادية الليبرالية والتابعة والتي تواصل تفقير الشعب ونهب ثرواته وتكرّس مصالح الأثرياء على حساب الفقراء والكادحين، وقد صرّح أحد نواب هذه التوليفة المفبركة (مهدي بن غربية) بكونه يتخوّف من تعطيل الجبهة لمشاريع القوانين المستعجلة التي يتطلّبها الوضع الدقيق في البلاد، والسيد النائب هنا هو منسجم مع طبقته ومع تطلّعاتها التي تتناقض جوهريا مع أطروحات الجبهة التي تنحاز للطبقات المقابلة التي هي الطبقات الشعبية التي يُراد للبرلمان أن يُشرّع انتهاك حقوقها وافتكاك خبزها لفائدة مصّاصي الدّماء المحليين والخارجيين وهو ما ستثبته الأيام القليلة القادمة، لذلك تسعى حكومة رأس المال الى الربط مع جوهرها الحقيقي بما في ذلك العمل على خلق معارضة صورية لتمرير مصالحها الانانية، لكن هيهات، فكما سقطت هذه النوازع الاستبدادية سابقا سيتصدّى لها شعبنا اليوم، فعزاؤه اليوم هو معارضته الوطنية الشعبية التي تبلّغ صوته وتدافع عن جلده الذي يتعرّض أكثر من أي وقت مضى للسّلخ.
علي جلّولي: “صوت الشّعب”: العدد 165